خطبة: الأسباب الشرعية الجالبة للرزق (سلسلة الواعظ عدد ربيع الآخر 1437هـ)

2016-01-24

اللجنة العلمية

الأسباب الشرعية الجالبة للرزق

الأسباب الشرعية الجالبة للرزق

مقدمة قواعد مهمة أسباب شرعية تجلب الرزق والبركة.

مقدمة: لقد أصبح طلب الرزق وتدبير المعاش مما يشغل بال الكثير من الناس بل ويقلقهم، حتى سلكوا في سبيل الحصول عليه كل مسلك، وسعوا إليه بكل سبيل، وطغى حبّ المال وحب الماديات على كثير من المسلمين مما أثَّر بشكل كبير على الجوانب المعنوية في حياتهم، وهي الجوانب المهمة في حياة الإنسان كإنسانٍ أولا ثمّ كمسلمٍ له ثروة روحية كبيرة. والله سبحانه وتعالى عندما كتب مقادير الرزق، كتب أيضا وبيَّنَ الوسائل التي يطلب بها الرزق، وقسم سبحانه وتعالى هذه الوسائل إلى وسائل حسية ووسائل معنوية.

فأما الوسائل المحسوسة في طلب الرزق فإن الناس لا يجهلونها وهي الوسائل المشروعة المباحة التي ليس فيه ضرر على النفس ولا على الآخرين.

وأما الوسائل المعنوية في طلب الرزق والتي لا يلقي لها كثير من الناس بالا، وقد أشار الله تعالى إليها في كتابه العزيز، وهي الأمور المهمة التي يستجلب بها الرزق وتحلُّ بها البركة.

وقبل أن نبدأ في ذكر هذه الأسباب لابد من عدة مقدمات وهي:

- الرزق بيد الله تعالى وحده فلا يُطلب من غيره

قال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}. [فاطر: 3] وقال سبحانه { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]

وقال تعالى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [هود: 6]

وقال تعالى{ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [العنكبوت: 60]

لذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، لابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما،: (( إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ )).(1)

- الذي تولى قسمة الأرزاق هو الله العليم الخبير.

فتقسيم الأرزاق بين الناس، لا علاقة له، بالحسب ولا بالنسب، ولا بالعقل والذكاء، ولا بالوجاهة والمكانة ولا بالطاعة والعصيان، وإنما يوزع جل جلاله رزقه على عباده، لحكمة هو يعلمها، فقد يعطي الوضيع، ويمنع الحسيب، وقد يعطي الكافر ويمنع المؤمن.

لذلك قال بعض الْحُكَمَاء: لَوْ جَرَتْ الْأَقْسَامُ عَلَى قَدْرِ الْعُقُولِ لَمْ تَعِشْ الْبَهَائِمُ. فَنَظَمَهُ أَبُو تَمَّامٍ فَقَالَ:

يَنَالُ الْفَتَى مِنْ عَيْشِهِ وَهُوَ جَاهِلُ. . . وَيُكْدِي الْفَتَى مِنْ دَهْرِهِ وَهُوَ عَالِمُ

وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْزَاقُ تَجْرِي عَلَى الْحِجَا. . . هَلَكْنَ إذَنْ مِنْ جَهْلِهِنَّ الْبَهَائِمُ(2)

- ليس العطاء علامة الرضا ولا المنع علامة السخط

قَالَ عَبْدُ اللهِ بن مسعود -رضي الله عنه-،: إنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لاَ يُحِبُّ، وَلاَ يُعْطِي الإِيمَانَ إِلاَّ مَنْ يُحِبُّ. (3)

وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضي الله عنه-، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: ((إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا مَا يُحِبُّ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ ثُمَّ تَلاَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-،: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}. (4)

وعن عُمَر بْن الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-، قال: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ، فَجَلَسْتُ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَنَظَرْتُ بِبَصَرِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ فبكيتُ، قَالَ: ((مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ)) قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَمَا لِي لَا أَبْكِي وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى، وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَصَفْوَتُهُ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ، فَقَالَ: ((يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ وَلَهُمُ الدُّنْيَا؟ ))، قُلْتُ: بَلَى. (5)

- الأرزاق محتومة معلومة، فالرزق يطلبُ العبدَ كما يطلبه الأجل

عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: ((إِنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الْعَبْدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ)). (6)

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنه-، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَرَأَى تَمْرَةً عَائِرَةً، فَأَعْطَاهَا سَائِلًا وَقَالَ: ((لَوْ لَمْ تَأْتِهَا لَأَتَتْكَ)). (7)

وعَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-،: ((لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ هَرَبَ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَهْرُبُ مِنَ الْمَوْتِ لَأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ)). (8)

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِيَ أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ وَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ)). (9)

- أسباب شرعية تستجلب الرزق والبركة

السبب الأول: تقوى الله تعالى والإيمان به.

جعل الله تعالى التقوى من الأسباب التي تجلب الرزق وتزيده، فقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}. [الطلاق: 3، 2]

فكل من اتقى الله ولازم مرضاته في جميع أحواله، فإن الله يثيبه في الدنيا والآخرة، ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرَجاً ومخرجاً من كل شدة ومشقة، ويسوق إليه الرزق من وجه لا يحتسبه ولا يشعر به.

قَالَ قَتَادَةُ -رحمه الله-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} أَيْ: مِنْ شُبُهَاتِ الْأُمُورِ وَالْكَرْبِ عِنْدَ الْمَوْتِ، {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وَمِنْ حَيْثُ لَا يَرْجُو أَوْ لَا يَأْمُلُ. (10)

يقول ابن كثير -رحمه الله-: أَيْ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ، وتَرَك مَا نَهَاهُ عَنْهُ، يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، أَيْ: مِنْ جِهَةٍ لَا تَخْطُرُ بِبَالِهِ. (11)

ويقول الله تعالى: (( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون)) [الأعراف: 96].

يقول السعدي -رحمه الله-: لو أن أهل القرى آمنوا بقلوبهم إيماناً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله تعالى ظاهراً وباطناً بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدراراً، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيش وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب. (12)

وقال تعالى{ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } [الجن: 16]

عَنْ مُجَاهِدٍ: {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}. قَالَ: نَافِعًا كَثِيرًا، ولَأَعْطَيْنَاهُمْ مَالًا كَثِيرًا. تفسير الطبري (23/ 335)

وقال تعالى عن أهل الكتاب: { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } [المائدة: 66]

السبب الثاني: كثرة الاستغفار والتوبة

ومن الأسباب التي تجلب الرزق الاستغفار والتوبة، يقول تعالى إخباراً عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً }. [نوح: 10-12].

يقول القرطبي -رحمه الله-: في هذه الآية والتي في هود دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ يُسْتَنْزَلُ بِهِ الرِّزْقُ وَالْأَمْطَارُ. (13)

ويقول ابن كثير -رحمه الله-: أَيْ: إِذَا تُبْتُمْ إِلَى اللَّهِ وَاسْتَغْفَرْتُمُوهُ وَأَطَعْتُمُوهُ، كَثُرَ الرِّزْقُ عَلَيْكُمْ، وَأَسْقَاكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَأَنْبَتَ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ، وَأَنْبَتَ لَكُمُ الزَّرْعَ، وَأَدَرَّ لَكُمُ الضَّرْعَ، وَأَمَدَّكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ، أَيْ: أَعْطَاكُمُ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ، وَجَعَلَ لَكُمْ جَنَّاتٍ فِيهَا أَنْوَاعَ الثِّمَارِ، وَخَلَّلَهَا بِالْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهَا. (14)

وعَنِ الشَّعْبِيِّ -رحمه الله-، قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ -رضي الله عنه-، يَسْتَسْقِي بِالنَّاسِ، فَمَا زَادَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ حَتَّى رَجَعَ، قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا نَرَاكَ اسْتَسْقَيْتَ؟ قَالَ: لَقَدْ طَلَبْتُ الْمَطَرَ بِمُجَادِيحِ السَّمَاءِ الَّتِي يُسْتَنْزَلُ بِهَا الْمَطَرُ، ثُمَّ قَالَ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}. (15)

وشكا رجل إلى الحسن البصري -رحمه الله-، الجدب فقال له: استغفر الله، وشكا آخر الفقر، فقال له: استغفر الله. وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله. وشكا إليه رجلٌ جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله. فقالوا له في ذلك: أتاك رجال يشكون أنواعاً فأمرتهم كلهم بالاستغفار. فقال: ما قلتُ من عندي شيئاً، إن الله تعالى يقول: (( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً. . )). (16)

قال جعفر بن محمد لسفيان الثوري: يا سفيان إذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار فإن الله تعالى قال في كتابه {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ}. (17)

ويقول تعالى عن هود أنه قال لقومه: (( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ )) [هود: 52].

يقول ابن كثير -رحمه الله-: أمر هود عليه السلام قومه بِالِاسْتِغْفَارِ الَّذِي فِيهِ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ السَّالِفَةِ، وَبِالتَّوْبَةِ عَمَّا يَسْتَقْبِلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ السَّابِقَةِ وَمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَحَفِظَ عَلَيْهِ شَأْنَهُ وَقُوَّتَهُ. (18)

ويقول تعالى أيضاً: (( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ)) [هود: 3].

قال الشنقيطي -رحمه الله-: هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ وَالتَّوْبَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الذُّنُوبِ سَبَبٌ لِأَنْ يُمَتِّعَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ; لِأَنَّهُ رَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ تَرْتِيبَ الْجَزَاءِ عَلَى شَرْطِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَتَاعِ الْحَسَنِ: سَعَةُ الرِّزْقِ، وَرَغَدُ الْعَيْشِ، وَالْعَافِيَةُ فِي الدُّنْيَا. (19)

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ، جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)). (20)

فإن كنتَ ترغب في سعة الرزق ورغد العيش فسارع إلى الاستغفار بالقول والفعل، واحذر من الاقتصار على الاستغفار باللسان وحده، فإن هذا فعل الكذابين.

السبب الثالث: التوكل على الله تعالى

ومما يستجلب به الرزق: التوكل على الله تعالى، { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] فمن تعلق قلبه بالله تعالى في جلب النفع ودفع الضر، وفوَّض إليه أمره، كفاه الله ما أهمَّه، واندفع عنه ما أغمَّه، ورزقه تعالى من كل ما ضاق على الناس. فعن عُمَرَ بْن الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-: أنَّهُ سَمِعَ نَبِيَّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: (( لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا)). (21)

يقول ابن رجب -رحمه الله-: هذا الحديثُ أصل في التوكُّل، وأنَّه من أعظم الأسباب التي يُستجلب بها الرزقُ.

وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: تَوَكَّلْ تُسَقْ إِلَيْكَ الْأَرْزَاقُ بِلَا تَعَبٍ وَلَا تَكَلُّفٍ. (22)

وحقيقة التوكل كما يقول ابن رجب -رحمه الله- هي: صِدْقُ اعْتِمَادِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي اسْتِجْلَابِ الْمَصَالِحِ، وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كُلِّهَا، وَكِلَةُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَيْهِ. (23)

فالمسلم مطالب بالأخذ بالأسباب مع عدم اعتماده عليها، بل يعتقد أن الأمر كله لله، وأن الرزق منه سبحانه وحده.

السببُ الرابع: صلة الرحم

ومن الأسباب الجالبة للرزق أيضاً صلة الرحم.

عن أَنَس بْن مَالِكٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-قَالَ: ((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)). (24)

وقد عنون البخاري رحمه الله على هذين الحديثين بقوله: ( باب من بُسط له في الرزق بصلة الرحم ). أي بسبب صلة الرحم.

وروى ابن حبان حديث أنس وعنون عليه بقوله: ( ذكر إثبات طيب العيش في الأمن وكثرة البركة في الرزق للواصل رحمه ).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: ((تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي المَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الأَثَرِ)). (25)

ومعنى قوله ( مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ)، أَيْ: سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الْمَالِ وقوله (مَنْسَأَةٌ): بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَفْعَلَةٌ مِنَ النُّسَأِ وَهُوَ التَّأْخِيرُ (فِي الْأَثَرِ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ: الْأَجَلُ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ سَبَبٍ لِتَأْخِيرِ الْأَجَلِ وَمُوجِبٍ لِزِيَادَةِ الْعُمُرِ، وَقِيلَ: بَاعِثُ دَوَامٍ وَاسْتِمْرَارٍ فِي النَّسْلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ يُمْنَ الصِّلَةِ يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ. (26)

فمن هم الأرحام، وبأي شيء تكون صلتهم؟

الأرحام هم الأقارب، وهم من بينك وبينهم نسب، سواء كنت ترثهم أم لا، وسواء كانوا ذا محرم أم لا.

وصلتهم تكون بأشياء متعددة: فتكون بزيارتهم والإهداء إليهم، والسؤال عنهم، وتفقد أحوالهم، والتصدق على فقيرهم، والتلطف مع غنيهم، واحترام كبيرهم، وتكون كذلك باستضافتهم وحسن استقبالهم، ومشاركتهم في أفراحهم، ومواساتهم في أحزانهم، كما تكون بالدعاء لهم، وسلامة الصدر نحوهم، وإجابة دعوتهم، وعيادة مرضاهم، ودعوتهم إلى الهدى، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتكون أيضاً بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر، وبطلاقة الوجه، وغير ذلك.

السبب الخامس: المتابعة بين الحج والعمرة

المتابعة بين الحج والعمرة من أسباب سعة الرزق ويسر الحال، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ، وَالذَّهَبِ، وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الجَنَّةُ)). (27)

السبب السادس: التفرغ للعبادة

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ((يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي، أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ)). (28)

وعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ رَبُّكُمْ تَعَالَى: ((ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ قَلْبَكَ غِنًى، وَامْلَأْ يَدَيْكَ رِزْقًا، ابْنَ آدَمَ لَا تَبَاعَدْ عَنِّي فَأَمْلَأْ قَلْبَكَ فَقْرًا، وَأَمْلَأْ يَدَيْكَ شُغْلًا)). (29)

ففي هذين الحديثين وعد الله تعالى مَنْ تفرغ لعبادته بشيئين هما: ملء قلبه بالغنى، ويديه بالرزق، وتوعَّد من لم يتفرغ بعقوبتين هما: ملء قلبه فقراً ويديه شغلاً، ومن المعلوم أن من أغنى الله قلبه لا يقرب منه الفقر أبداً، ومن ملأ الرزَّاق يديه رزقاً لا يفلس أبداً.

والتفرغ للعبادة ليس معناه ترك الكسب والانقطاع عن طلب الرزق والجلوس في المسجد ليلاً ونهاراً، وإنما المراد أن يكون العبد حاضر القلب والجسد أثناء العبادة، خاشعاً خاضعاً لله، مستحضراً عظمة خالقه ومولاه، مستشعراً أنه يناجي مالك الأرض والسماء.

السبب السابع: شكر الله تعالى

فقد قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7]، فعلَّق سبحانه المزيد بالشكر، والمزيد منه لا نهاية له.

قال عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله-: قيَّدوا نعم الله بشكر الله، فالشكر قيد النعم وسبب المزيد.

وقال جعفر بن محمد لسفيان الثوري: يا سفيان إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت بقاءها ودوامها فأكثر من الحمد والشكر عليها فإن الله عز وجل قال في كتابه {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}. (30)

وقال تعالى {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل: 40]

قال القرطبي -رحمه الله-: أَيْ لَا يَرْجِعُ نَفْعُ ذَلِكَ إِلَّا إِلَى نَفْسِهِ، حَيْثُ اسْتَوْجَبَ بِشُكْرِهِ تَمَامَ النِّعْمَةِ وَدَوَامَهَا وَالْمَزِيدَ مِنْهَا. وَالشُّكْرُ قَيْدُ النِّعْمَةِ الْمَوْجُودَةِ، وَبِهِ تُنَالُ النِّعْمَةُ الْمَفْقُودَةُ. (31)

النعمة وحشيةٌ، إن شُكِرَتْ قَرَّتْ، وإنْ كُفِرَتْ فَرَّتْ. (32)

قال الحسن البصرى -رحمه الله-: إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء فإذا لم يشكر عليها قلبها عذابا. (33)

السبب الثامن: اللجوء إلى الله عند الفاقة

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-،: ((مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِاللَّهِ، فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ)). (34)

-----

(1) رواه الترمذي (2516) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1318)

(2) أدب الدنيا والدين (ص: 45)

(3) مصنف ابن أبي شيبة (13/ 293)

(4) رواه أحمد (4/ 145) والطبراني (913) وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 774)

(5) رواه مسلم (1479)

(6) رواه ابن أبي عاصم في السنة (264) وابن حبان (3238) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 336)

(7) رواه ابن أبي عاصم في السنة (265) وابن حبان (3240) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 336) والْعَائِرَة: هِيَ السَّاقِطَة عَلَى وَجْه الْأَرْض، وَلَا يُعْرَف مِنْ صَاحِبهَا.

(8) رواه أبو نعيم في الحلية (7/ 90) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 929)

(9) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (10/ 27) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 420)

(10) تفسير ابن كثير(8/ 147)

(11) تفسير ابن كثير(8/ 146)

(12) تفسير السعدي(ص: 298)

(13) تفسير القرطبي (18/ 302)

(14) تفسير ابن كثير(8/ 233)

(15) المطر والرعد والبرق لابن أبي الدنيا (ص: 106)

(16) فتح الباري لابن حجر (11/ 98)

(17) صفة الصفوة (1/ 391)

(18) تفسير ابن كثير (4/ 329)

(19) أضواء البيان(2/ 169)

(20) رواه أحمد (1/ 248) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (ص: 789)

(21) رواه أحمد (1/ 30)وصححه الألباني صحيح الجامع (2/ 932)

(22) جامع العلوم والحكم (3/ 1266)

(23) جامع العلوم والحكم (2/ 497)

(24) رواه البخاري (2067) (ينسأ له في أثره) يمد له في عمره ويؤخر أجله ويخلد ذكره.

(25) رواه الترمذي (1979) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 570)

(26) مرقاة المفاتيح (7/ 3092)

(27) رواه الترمذي (810) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 560)

(28) رواه الترمذي (2466) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 388)

(29) رواه الطبراني (500) والحاكم 4 / 326وصحح إسناده ووافقه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 229)

(30) صفة الصفوة (1/ 391)

(31) تفسير القرطبي (13/ 206)

(32) التمثيل والمحاضرة للثعالبي (ص: 416)

(33) عدة الصابرين (ص: 120)

(34) رواه الترمذي (2326) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1044)

عدد المشاهدات 4826