اتباع الشرع … ومخالفة الهوى

2010-12-04

صفوت نور الدين

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه. وبعد :

فإن غرورًا بالغًا يصيب الناس في كل زمان ، خاصة هذا الزمان ، حيث ينظرون إلى أنفسهم أنهم أهل التقدم والحضارة والرقي ، وأن من سبقهم هم أهل التخلف والانحطاط والرجعية ، فيقولون : وصلنا من العلوم ما لم يدركه السابقون ، فأقوالنا وآراؤنا أعلم وأحكم ، ومن عجب أنهم يقولون ذلك حتى في أمور الشرع والدين !! فيجعلون الخلف في معرفة الله بأسمائه وصفاته أعلم وأحكم من السلف ، وهذه مقولة خبيثة تحمل أصحابها ومن اغتر بهم على رد ما جاء به الشرع .

والإنسان قد وهبه الله في كل عصر من العلوم ما ينظم بها حياته، فلا ينبغي أن يتطاول بها أو يطغى، فإن فعل أخذه الله أخذ عزيز مقتدر.

وبعض العصور الماضية قد بلغ الإنسان فيها طرفًا من العلوم المادية ، عجز رجال اليوم ومفكروه عن معرفته واستخدامه ، من أمثلة ذلك قوم عاد وثمود وقوم فرعون ، فقوم عاد يبنون مدينة (إرم) التي قال عنها رب العزة سبحانه : ( إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ(7)الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ) [ الفجر : 7 ، 8] ، ووصف قوم ثمود بقوله : ( الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ )  ، وبقوله :(يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ءَامِنِينَ ) [ الحجر : 82] ، وكذلك وصف قوم فرعون بقوله:( وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ) [ الفجر : 10] ؛ أي الذين يبنون الجبال ، فالأهرامات في بنائها وتحنيط جثث موتاهم بها ، وما طلبه فرعون من وزيره أن يبني له صرحًا يبلغ به السماء ، كل ذلك من العلوم ما يعجز علماء اليوم أن يعرفوه .

ففي مجالات التقدم العمراني كانت عاد وثمود وقوم فرعون مضرب الأمثلة في القرآن الكريم.

أما في مجال التقدم الطبي ؛ فنحن نظن أن الإنسان قديمًا كان عاجزًا عما نعرفه اليوم من علوم وأبحاث في طب الأبدان ، وهذا من غرورنا ، لكن ظهر للباحثين خلاف ذلك ، ففي العصر البرونزي عرف الإنسان عملية التربنة التي يستبدل فيها جزء تالف من عظام الدماغ وهي من الجراحات الدقيقة ، وعرف القدماء المصريون زراعة الأسنان ، وعرف الهنود قبل الميلاد بسبعة قرون عملية ترقيع الجلد ، ولا تزال طريقتهم هي المستخدمة اليوم عند الأطباء المعاصرين مع بعض التعديلات الطفيفة .

هذا ؛ والله سبحانه الذي بعث كل نبي بمعجزة يبهر بها قومه فيما كانوا يجيدون ويحسنون ، بعث المسيح ، عليه السلام : (  وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ) [ آل عمران : 49] ، وذلك لأن القوم برعوا في الطب بما لم يبلغه من قبلهم ولا من بعدهم .

وليس بغريب علينا ما نراه من طب العرب القدماء من العطارة والأعشاب ما يحتاجه أطباء اليوم ويتداولونه .

وإن التقدم العلمي اليوم والتطور الهائل لا نستطيع له إنكارًا ، وإنما أردت أن أبين أن حلقات التقدم المادي متغيرة على مر التاريخ ، والتقدم فيها ليس دليل تقدم ورقي شامل ، فالله سبحانه عاب أقوامًا بقوله : (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ) [ الروم : 7] ، وإن زيادة التقدم العلمي قرب الساعة يشهد له قوله تعالى في سورة (يونس) : ( حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) [يونس : 24] .

ولكن التقدم العلمي والتقني اليوم في غرس الأعضاء وغيره أفاد كثيرًا ، وأدى خدمات للبشرية ، إلا أنه من جهة أخرى وضعنا أمام قضايا فقهية ومشاكل أخلاقية كثيرة لا بد من وضع حلول شرعية لها ، وهذه القضايا الجديدة في أمور الطب والقضايا القريبة منها في أمور المال قد تتفاوت فيها أنظار الفقهاء والعلماء المتخصصين بين مجيزين يحلون منها الكثير وبين متحفظين ينهون منها عن اليسير فينظر غير المتخصص فيحتار في هذه الأقوال المختلفة ويحتار ماذا يعمل ؟!

لذا فإنه ينبغي علينا في كل أمر حادث جديد أن ننظر إلى فتاوى المجامع العلمية المعتبرة التي يشهدها عدد كبير من علماء العالم الإسلامي ، والتي يستعان فيها بالخبراء والمتخصصين دون تأثير على أقوالهم وقراراتهم من نظام سياسي أو مطمع دنيوي مادي ، فقراراتهم هي الأقرب إلى سبيل المؤمنين الذي قال رب العزة عنه : ( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء : 115] .

هذه المجامع الفقهية كثيرة في العالم الإسلامي ، مثل مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة ، ومجمع الفقه الإسلامي بجدة ، والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ، وغيرها من المجامع الفقهية .

وسيجد المسلم الذي يريد أن يتحرى عن أمر دينه في قرارات هذه المجامع بغيته المنشودة ، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) ، فإن العلم هو أفضل ما يتقي به العبد الشبهات ، فإن المشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، أي يعلمهن قليل من الناس ، هم العلماء ، فيطلب علمها عندهم .

لذا فإنك تجد الفتاوى الفردية في المستجدات العصرية متفاوتة تفاوتًا كبيرًا ، بينما قرارات المجامع العلمية إن لم تكن متطابقة فهي متقاربة جدًا ، وهي بتحفظات علمائها الصادرة في قراراتهم لا تكاد تختلف مع غيرها من نظائرها .

وليس معنى هذا ادعاء العصمة لهذه القرارات بحيث لا يجوز لمجمع جديد أن ينقض فتوى لمجمع فقهي سابق ، بل كلما اتسع ما لديهم من علوم وخبراء ومتخصصين يدلون بدلوهم ويوضحون حقيقته العلمية والأدلة الشرعية والوقائع والنتائج والتطبيقات ورصدها ، كلما كثر ذلك ، كانت قراراتهم أصوب وأحكم .

لذا فعلى المسلم أن يأخذ في المستجدات العصرية، مثل أحكام الأموال والبنوك والبورصة وأحكام الجراحات الحديثة، وما شابه ذلك عليه أن يأخذ بفتاوى المجامع العلمية المعتبرة دون ادعاء العصمة لها.

أما الفتاوى الفردية، فمع إجلالنا وتقديرنا واحترامنا لمن أفتوا بها ، فإننا نضعها في موضعها الصحيح ، غير معارضين بها فتاوى وقرارات المجامع العلمية .

يقول ابن المبارك: (رب رجل في الإسلام له قدم حسن وآثار صالحة كانت منه الهفوة والزلة لا يقتدى به في هفوته وزلته).

كتبت هذه الكلمات تنبيهًا على مسألة هامة ؛ وهو أنه في الأمور الحادثة العصرية التي لم يسبق لها نظير يجب اتباع فتاوى وقرارات اللجان العلمية المعتبرة التي يشهدها عدد كبير من علماء العالم الإسلامي متجردين من الضغوط السياسية والمادية ، فهي أرشد وأوثق وأوفق ، مع عدم إعمال اللسان أو الطعن في المخالفين من العلماء ، مع إيماننا أنهم في قولهم الذي خالفوا فيه المجامع العلمية قد خالفهم الصواب ، فهي منهم هفوة وزلة لا يقتدى بهم فيها .

والله أعلم .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

عدد المشاهدات 4908