التربية بين الأصالة والتجديد‏-3-‏

2010-12-04

صفوت نور الدين

كلنا يسمع بالصيحات تتعالى منذرة بالمشكلات الاقتصادية داعية للإصلاح وإلى ‏مؤسسات الأمن الغذائي ومظلة التأمينات إلى غير ذلك - والمجتمع الذي عاش فيه ‏رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة في سنوات ما بعد الهجره يصل في فقره إلى ‏درجة عجيبة من شواهدها :-‏

‏(1) ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت ( إنا كنا لننظر ‏الهلال ثم الهلال ثلاثة أهله في شهرين وما يوقد في بيوت رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم نار - قال عروة قلت يا خالة فما كان يعيشكم ؟ قالت الأسودان : ‏التمر والماء …) .‏

‏(2) روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال إني

‏لأول العرب رميًا بسهم في سبيل الله ، ولقد كنا نغزو مع رسول الله صلى

الله ‏عليه وسلم وما لنا طعام إلا ورق الحبلة وهذا السمر (1) حتى إن أحدنا ليضع ‏كما تضع الشاة ما له خلط (ما له خلط بكسر الخاء أي لا يختلط بعضه ببعض ‏من شدة جفافه وتفتته ) ‏

‏(3) روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال والله الذي لا إله إلا

هو إن ‏كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع وإن كنت لأشد الحجر على بطني ‏من شدة الجوع …)‏

‏(4) روى البخاري عنه أيضًا أن سائلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

عن ‏الصلاة في ثوب واحد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( أو لكلكم ثوبان ) ؟.‏

تأمل هذه الحياة العجيبة في فقرها من تلك العبارات اليسيرة فماذا أحدثت دعوة ‏النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا المجتمع لقد بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ‏في عالم أصيب بزلزال شديد هزه هزًا عنيفًا حتى أصبح كل شيء في غير محلة - ‏رأى الإنسان وقد هانت عليه انسانيته فأخذ يسجد للحجر والشجر والشمس ‏والقمر وما لا ينفع ولا يضر - رأى أنفسا فسدت حتى أنها ترى المر عذبًا والخبيث ‏طيبًا - رأى المجتمع يكره الصديق الناصح ويحب العدو الظالم - رأى مجتمعًا ‏أصبح الذئب فيه راعيًا والخصم الجائر قاضيًا - المجرم فيه سعيدًا حظيًا والصالح ‏محرومًا شقيًا - المعروف فيه منكرًا والمنكر معروفًا شرب الخمر ضياع للعقول والأبدان ‏‏- الخلاعة والفجور إلى حد ضياع الأنساب - فساد في كل مناحي الحياة لا يكفيه ‏أجيال من المصلحين - لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مصلحًا كعامة ‏المصلحين يعالج معايب اجتماعية أو خلقية أو اقتصادية أو سياسية . بل قد أتى ‏البيت من بابه ووضع على القفل مفتاحه فانحلت تلك العقد التي أعيت جميع ‏المصلحين - دعا الناس فقال : ( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) فلما انحلت عقدة ‏الشرك تلتها جميع العقد تنحل سهلة ميسورة .‏

شهادات الأجانب لما قام الرسول - صلى الله عليه وسلم - (2)

قال موير ( لم يكن الإصلاح أعسر ولا أبعد منالا منه وقت ظهور محمد ولا نعلم ‏نجاحا تم كالذي تركه عند وفاته .‏

وتقول دائرة المعارف البريطانية ( لقد صادف محمد النجاح الذي لم ينل مثله نبي ‏ولا مصلح ديني في زمن من الأزمنة .‏

ويقول يوزوت أسمث ( إن محمدًا أعظم المصلحين على الإطلاق دون منازع ) .‏

ويقول هيل إن جميع الدعوات الدينية قد تركت أثرًا في تاريخ البشر وكل رجال ‏الدعوة والأنبياء قد أثروا تأثيرًا عميقًا في حضارة عصرهم وأقوامهم ولكنا لا نعرف ‏في التاريخ أن دينا أنتشر بهذه السرعة وغير العالم بأثره المباشر كما فعل الإسلام ‏ولا نعرف في التاريخ دعوة كان صاحبها سيدًا مالكًا لزمانة ولقومه كما كان محمد . ‏لقد أخرج أمة إلى الوجود ومكن لعبادة الله في الأرض وفتحها لرسالة الطهر ‏والفضيلة ووضع أسس العدالة والمساواة الاجتماعية بين المؤمنين وأصل النظام ‏والتناسق والطاعة والعزة في أقوام لا تعرف غير الفوضى ) ‏

من صور التحول العجيب ‏

* عمر بن الخطاب كان في جاهليته رجلاً قبلي الفكر والطبيعة والعاطفة محدود ‏الإدراك همه السكر واللهو حتى يقال عنه ( والله لا يؤمن حتى يؤمن حمار خطاب ‏‏) ‏

يصبح بعد الإسلام عمر العبقري الفذ قائد الدولة رمز العدل ، لا يكون إلا ومعه الحزم ‏والرحمة وسعة الأفق وصدق العزيمة وحسن الفراسة حتى يملأ أسماع الدنيا ‏وأبصارها بالآثار الحسنة والطيبة .‏

* عبد الله بن مسعود راعى الإبل المحتقر المهان في قريش لا يجيد إلا خدمة ‏سيده نحيل الجسم قصير القامة ، دقيق الساقين - يصبح بعد الإسلام رجل ‏الفقه والرأى يقول عنه عمر لأهل الكوفة : لقد آثرتكم بعبد الله على نفسي .‏

* خالد بن الوليد رجل العصابات في الجاهلية - فارس يستعين به رؤساء ‏قريش في المعارك القبلية فينال ثقتهم وثناءهم - يصبح بعد الإسلام سيف الله ‏المسلول الذي إذا خرج من غمده لم يعد إلا والنصر معه - ينزل على الروم ‏كالصاعقة يترك ذكرًا خالدًا في التاريخ .‏

* سلمان الفارسي كان أبوه رئيسًا للدين المجوسي وكان هو الذي يوقد النار ‏التي يعبدونها ثم ينتقل من رق إلى رق ومن قسوة إلى قسوة ثم بعد الإسلام يطلع ‏على العالم كحاكم لعاصمة الأمبراطورية الفارسية التي كان بالأمس أحد ‏رعاياها المغمورين . وهذا لا يغير من زهادته وتقشفه بل يراه الناس يسكن كوخًا ‏ويحمل الأثقال على رأسه .‏

من الجاهلية إلى الإسلام ‏

كان المجتمع الذي بعث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا الإيمان في فوضى ‏من الأفعال والأخلاق والسلوك والأخذ والترك والسياسة والاجتماع . لا يخضون ‏لسلطان ولا يقرون بنظام ولا ينخرطون في سلك . يسيرون على الأهواء ويركبون ‏العمياء ويخبطون خبط عشواء.‏

فأصبحوا الآن في حظيرة الإيمان والعبودية لا يخرجون منها واعترفوا لله بالملك ‏والسلطان والأمر والنهي . ولأنفسهم بالعبودية والطاعة المطلقة . وأعطوا من ‏أنفسهم القياد واستسلموا للحكم الإلهي استسلامًا كاملاً . تنازلوا عن أهوائهم ‏وأنانيتهم وأصبحوا عبيدًا لله لا يفعلون إلا ما يرضي مالكهم وسيدهم .‏

لقد كان هذا التغيير الذي أحدثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفوس المسلمين أغرب ‏ما في التاريخ - كان غريبًا في سرعته وعمقه وسعته وشموله ووضوحه وسهولة ‏فهمه.‏

إذن فما هو طريق الإصلاح والتربية الذي اتبعه النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ .‏

للبحث بقية إن شاء الله .‏

‏(1) الحبلة بضم الحاء وسكون الباء والسمر بفتح السين المشددة وضم الميم نوعان ‏من الشجر معروفان بالبادية .‏

(2) عن كتاب الرسول للأستاذ سعيد حوى .‏

عدد المشاهدات 4644