التربية بين الأصالة والتجديد‏-4-‏: الرسول - صلى الله عليه وسلم - معلمًا

2010-12-04

صفوت نور الدين

الرسول - صلى الله عليه وسلم - معلمًا :‏

كانت دار الأرقم بن أبي الأرقم هي المدرسة الأولى التي كان يلتف المسلمون الأوائل ‏فيها حول النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ عليهم القرآن ويعظهم ثم أصبح بعد ذلك ‏النبي - صلى الله عليه وسلم - مكانًا للدعوة. فلما هاجر كان المسجد هو مكان العلم ‏والفتوى والقضاء والعبادة وكان من خصائص تعليمه لصحبه الكرام:‏

أولاً : تقسيم المواعظ وتفريقها مع الأوقات . وذلك لأن كثرة العلم ينسى بعضه ‏بعضًا ولأن دوام التذكرة في حياة المسلم أمر ضروري لتصحيح سلوكه وصرف ‏الشيطان عنه . فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ‏يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة منا ( رواه البخاري ) .‏

هذا ولا يمنع ذلك أن تكون بعض المواعظ من النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثت في ‏أوقات نادرة وكانت طويلة كما روى مسلم عن عمرو بن أخطب قال صلى بنا رسول ‏الله - صلى الله عليه وسلم - الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ‏ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا ‏حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا .‏

ثانيًا: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب الناس بقدر إدراكهم وفهمهم ‏وحسب خبراتهم. ففيهم البدوى والحضري والصغير والكبير والذكر والأنثى . ‏فلقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : ‏

جاء رجل من بني فزارة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إن امرأتي ولدت غلامًا ‏أسود وإني أنكرته فقال له النبي : هل لك من إبل ؟ قال : نعم . قال : فما ألوانها ‏‏؟ قال حمر، قال هل فيها أورق (1) ؟ قال : إن فيها لورقًا ، قال : فأني أتاها ‏ذلك ؟ قال : عسى أن يكون نزعة عرق (2) ، قال : وهذا عسى أن يكون نزعه عرق ‏‏( متفق عليه) .‏

ثالثًا : وضوح البيان : حيث كان - صلى الله عليه وسلم - إذا تكلم تكلم ثلاثًا لكي يفهم ‏عنه وإذا تكلم تكلم كلامًا مفصلاً يبينه فيحفظه من سمعه منه . قال أنس رضي الله ‏عنه يصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( كان إذا تكلم أعادها ثلاثًا حتى يفهم ‏عنه ) رواه البخاري . ‏

رابعًا : الرفق بالأصحاب حتى يتعلم جاهلهم : روى مسلم في صحيحه عن معاوية ‏بن الحكم السلمي رضي الله عليه قال : بينا أنا أصلى مع رسول الله صلى الله عليه ‏وسلم إذ عطس رجل في القوم فقلت يرحمك الله ، فرماني القوم بأبصارهم . فقلت ‏واثكل أمياه (3) ما شأنكم تنظرون إلي فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما ‏رأيتهم يصمتونني لكني سكت ، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبأبي هو ‏وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه ، فوالله ما كهرني (4) ولا ‏ضربني ولا شتمني ، قال : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس إنما ‏هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن . قلت يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية ‏وقد جاء الله بالإسلام ، وإن منا رجالا يأتون الكهان ، قال : فلا تأتهم . قال ومنا ‏رجال يتطيرون . قال ذلك شئ يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم … إلخ الحديث .‏

فانظر رفقه في تعليم الرجل حديث العهد بالإسلام وانظر كيف يعطيه الجواب عن ‏مسائله بقدر ما يحتاج للعمل لم يفصل فيه لأن الرجل لا يزال قريب عهد ‏بالجاهلية.‏

وفي ذلك أيضًا حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه الترمذي وغيره واللفظ له ‏‏: دخل أعرابي المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس فصلى فلما فرغ قال اللهم ‏ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا . فالتفت إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ‏لقد تحجرت(5) واسعًا ، فلم يلبث أن بال في المسجد . فقال النبي صلى الله عليه ‏وسلم: دعوه. حتى إذا فرغ قال أهريقوا عليه سجلا من ماء ، ثم قال إنما بعثتم ‏ميسرين ولم تبعثوا معسرين) وفي رواية ابن حبان فقال الأعرابي بعد أن فقه في ‏الإسلام : فقام إلى (بتشديد الياء) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يؤنبني ولم ‏يسبني وقال : إنما بني هذا المسجد لذكر الله والصلاة .‏

بعض الأساليب التربوية التي عالج بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المجتمع ‏الجاهلي(6)

أولاً : القدوة الحسنة :‏

إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو القدوة الحسنة والأسوة الطيبة والمثل الذي ‏يحتذي من المسلمين جميعًا وهذا ما يدعو القرآن الكريم إليه بقوله تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) (7) ‏وقد استدل علماء الأصول بهذه الآية الكريمة على صحة الاحتجاج بأفعال الرسول ‏- صلى الله عليه وسلم - .‏

بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو كثيرًا للاقتداء به فمن ذلك صلاة النبي ‏- صلى الله عليه وسلم - على المنبر ليراه الناس فيتعلموا . فعن سهل بن سعد رضي الله ‏عنه قال : ( …. ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام عليه (8) فكبر ‏وكبر الناس وراءه وهو على المنبر ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ‏ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ، ثم أقبل على الناس فقال : يأيها الناس إني إنما ‏صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي ) رواه مسلم .. ‏

وفي سياق حجة الوداع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى الجمرات من بطن الوادي ‏وهو على الراحلة يقول ( لتأخذوا مناسككم فإني لا أدرى لعلى لا أحج بعد حجتي ‏هذه … ) رواه مسلم . ولقد وصفته السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت ( كان خلقه ‏القرآن ) .‏

هذا وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصحح للناس أعمالهم بسلوكه ويدلهم على ذلك ‏‏: عن أنس رضي الله عنه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه ‏وسلم يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها - وقالوا : أين نحن من النبي ‏- صلى الله عليه وسلم - فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . قال أحدهم : أما أنا ‏فأصلى الليل أبدًا ، وقال الآخر : وأنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال الآخر وأنا ‏أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا . فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال : ( ‏أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر ‏وأصلى وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني (متفق عليه) .‏

ومن ذلك ما رواه ابن حبان في شأن عثمان بن حنيف رضي الله عنه عندما شغله قيام ‏الليل عن حق زوجته قال ( … فلقيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا عثمان : أما ‏لك فيّ ( بتشديد الياء ) أسوه ؟ قال : وما ذاك يا رسول الله فداك أبي وأمي ؟ قال : ‏أما أنت فتقوم الليل وتصوم النهار وإن لأهلك عليك حقًا وإن لجسدك عليك حقًا … ‏‏) (9) ‏

وعن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وكان ‏أجود الناس وكان أشجع الناس . ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل ‏الصوت فتلقاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعًا وقد سبقهم إلى الصوت وهو ‏على فرس لأبي طلحة عرى (10) في عنقه السيف . وهو يقول لم تراعوا لم تراعوا ‏‏(11) (متفق عليه).‏

وعن علي رضي الله عنه قال : إنا كنا إذا حمى البأس واحمرت الحدق اتقينا ‏برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه . ‏

ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أقربنا إلى العدو ‏وكان أشد الناس بأسًا ( رواه أحمد) .‏

هذا وإن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يتعلمون الدين والسلوك من النبي ‏- صلى الله عليه وسلم -. فترى البخاري في كتاب الصلاة يروى عن عثمان بن عفان ‏وضوءه ثم يشهد أنه وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - . ويروى عن جابر بن عبد الله ‏أنه يصلى في ثوب واحد ورداؤه موضوع ويحتج على صحة ذلك بقوله رأيت النبي ‏- صلى الله عليه وسلم - يصلى هكذا. ويروى عن مالك بن الحويرث أنه يقوم فيصلى ثم ‏يقول : إني لأصلى بكم وما أريد الصلاة . أصلى كما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ‏يصلى . ومن أمثلة ذلك ما لا يقع تحت حصر بل قد تتعدى القدوة أكثر من ذلك . ‏روى مسلم أن ابن عمر كان يأتي مسجد قباء كل سبت ويقول: رأيت النبي صلى ‏الله عليه وسلم يأتيه كل سبت.‏

فلا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - المثل الذي يحتذي والقدوة الذي يقتدي به في ‏كل أمر : زوجًا في بيته ، أبًا مع أبنائه ، قائدًا لجنده ، معلمًا لأتباعه ، عابدًا ‏لربه ، قدوة في الكرم والجود ، قدوة في الشجاعة والإقدام ، قدوة في الحلم والصفح ‏‏، قدوة في العلم والعبادة ، قدوة حتى في ملبسه ونومه وسيره وسائر عمله . وإن ‏التعليم بالقدوة لهو أنجح الوسائل فيقول الشاعر في ذلك :‏

يأيها الرجل المعلم غيره ‏

هلا لنفسك كان ذا التعليم ‏

تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى ‏

كما يصح به وأنت سقيم ‏

لا تنه عن خلق وتأتي مثله ‏

عار عليك إذا فعلت عظيم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها

فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يقبل ما وعظت ويقتدي

بالعلم منك وينفع التعليم ‏

ونحن اليوم إذا راجعنا صفحة حياتنا وسألنا عن مشاكلنا لوجدنا : الطبيب يحذر ‏من التدخين ومن أضراره والسيجار في فمه ، والاقتصادي يدعو إلى التقشف وخاتم ‏الذهب والعقيق يملأ كفه فضلا عن أصابعه ، والواعظ ينهى عن فحش القول بالقول ‏الفاحش ،والذين يدعون إلى الحرص على الوقت يضيعون الأوقات سدى ، والله ‏سبحانه يقول (  سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(1) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ) (12)‏

وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا ينقلون منه العلم بالاقتداء ثم تراهم ‏يعلمون ذلك بالقدوة إلى الحيل الذي يليهم حتى إن الإمام مالك رحمه الله تعالى إمام ‏أهل المدينة يأخذ بعمل أهل المدينة ويقدمه على حديث الآحاد لأنه نقل بالتواتر ‏العملي . ‏

والله نسأل أن يعين العلماء والأمراء على أن يكونوا قدوة لنا في العلم والعمل .‏

 

‏(1) الاورق : الذي به سواد .‏

‏(2)  نزعه عرق : الأصل والنسب من الأجداد البعيدة يظهر في الأبناء .‏

‏(3)  واثكل أمياه بضم الثاء وسكون الكاف وفتح اللام وضم الهمزة وفتح الياء ‏كلمة مثل ثكلتني أمي دعاء يراد به التعجب الشديد عند الغضب .‏

‏(4)  كهرني : انتهرني .‏

(5) تحجرت = ضيقت.‏

(6) وهو ما أشرنا إلى بعض صفاته في عدد ربيع الأول 1403.‏

(7)  الأحزاب آية 21 .‏

(8)  وقف على المنبر .‏

(9) راجع مقال الحقوق الزوجية (الزواج شرعة إسلامية ) مجلة التوحيد عدد ‏ذي الحجة 1402.‏

(10) عرى = أي أن الفرس لا سرج عليه .‏

(11)  لم تراعوا = أي أنتم في أمان .‏

(12) الصف آية 2 ، 3 .‏

عدد المشاهدات 4964