الدستور

2012-04-29

أحمد عبد السلام

بسم الله الرحمن  الرحيم

الدستور

مقدمة مهمة:

    تقوم الدولة على ثلاثة أركان هي:

1 - الشعب: لا يتصور وجود دولة دون وجود مجموعة من البشر ويتكون شعب أي دولة من وطنيين يتمتعون بجنسية الدولة، وتربطهم بها رابطة الولاء

2 - الإقليم: إذا وجد الشعب فلا بد له من الاستقرار على إقليم ما، يكون مستقرا للشعب ومصدرا رئيسا لثروة الدولة، وإقليم الدولة هو ذلك الجزء من الكرة الأرضية الذي تباشر الدولة عليه سلطانها، ولا يمارس عليه سلطان غير سلطانها.

3 - السلطة: لا يكفي لقيام الدولة وجود شعب معين على إقليم معين، فلا بد من قيام حكومة تباشر السلطات باسم الدولة،ولابد أن يكون لهذه الدولة دستور يحدد سلطات الحكومة، وحقوقها وواجباتها، وحقوق الأفراد، وواجباتهم، والعلاقة بين السلطات وشكل الدولة، ونظام الحكم فيها، سواء أكان هذا الدستور مدونا أم غير مدون.[1]

تعريف الدستور

 التعريف اللغوي: الدستور كلمة فارسية تعني الدفتر الذي تكتب فيه أسماء الجند، والذي تجمع فيه قوانين الملك، وتطلق أيضا على الوزير، وهي مركبة من كلمة " دست " بمعنى قاعدة، وكلمة " ور" أي صاحب، وانتقلت إلى العربية من التركية بمعنى (قانون، وإذن) ثم تطور استعمالها حتى أصبحت تطلق الآن على القانون الأساسي في الدولة. .[2]

- التعريف الاصطلاحي: يعرف الدستور اصطلاحا بأنه مجموعة الأحكام التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها، وسلطاتها، وطريقة توزيع هذه السلطات، وبيان اختصاصاتها، وبيان حقوق المواطنين وواجباتهم.

*وتطلق كلمة الدستور أحيانا فتنصرف إلى الوثيقة التي تحمل هذه التسمية، أو ما يراد ضمنها، مثل القانون الأساسي للدولة، وهذا هو المعنى الشكلي للدستور.[3]

تاريخ كتابة أول دستور:

وظهور المعنى الشكلي للدستور، كان نتيجة لانتشار حركة تدوين الدساتير في العصر الحديث، تلك الحركة التي بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية ومنها إلى فرنسا، ثم إلى بقية الدول، حيث كانت دساتير الولايات المتحدة الأمريكية ثم دستورها سنة 1778م أول الدساتير المكتوبة في التاريخ الحديث، تلاه الدستور الأول للثورة الفرنسية سنة 1971م، وانتشرت بعد ذلك حركة تدوين الدساتير فعمت بلاد العالم.[4]

دستور الأمة ووظيفتها:

لا ينهض العالم الإسلامي إلا برسالته التي وكلها إليه مؤسسه صلى الله عليه وسلم والإيمان بها والاستماتة في سبيلها، وهي رسالة قوية واضحة مشرقة، لم يعرف العالم رسالة أعدل منها ولا أفضل ولا أيمن للبشرية منها.وهي الرسالة نفسها التي حملها المسلمون في فتوحهم الأولى، والتي لخصها ربعي بن عامر , وحذيفة بن محصن , والمغيرة بن شعبة , جميعاً لرستم قائد جيش الفرس في القادسية , وهو يسألهم واحداً بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية , قبل المعركة:ما الذي جاء بكم فيكون الجواب:الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . ومن ضيق الدنيا إلى سعتها . ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام . . فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه, فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه, وتركناه وأرضه. ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر"[5]

فمطلوب من كل مسلم  أن يحمل لواء الدعوة، ويعلن حالة الطوارئ القصوى وساعة النفير والتعبئة العامة، وينخرط في ميدان العمل الدعوي بشروطه وضوابطه، فالدعوة واجب الجميع، فشارك إخوانك الدعاة في مشارق الأرض ومغاربها في الدعوة إلى الله لتنال الأجر والثواب من الله، وإن قعدت وتكاسلت عن هذا الأمر، فأنت الخاسر والله غالب على أمره وقادر على حماية دينه وتمكينه، وإظهاره في الأرض {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}

(الدستور في الإسلام):

التعريف العام: الدستور في الإسلام هو مجموعة القواعد والأحكام العامة الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية، التي تنظم المبادئ الرئيسة التي يقوم عليها الحكم في الإسلام.

فالدستور الإسلامي بهذا التعريف العام ثابت على مدى الزمن، لا يمكن تعديله، أو تغييره، أو إلغاؤه بحال؛ لأنه وحي من الله وليس لبشر أن يغير في الوحي أو يبدل.

التعريف الخاص: الدستور في الإسلام هو مجموعة القواعد والأحكام الأساسية في الدولة المسلمة، التي تبين نظام الحكم وشكل الدولة، والسلطات العامة فيها، والأشخاص والهيئات التي تتولى هذه السلطات، وارتباطها ببعضها، وبيان حقوق الأفراد، وواجباتهم، صادرة في ذلك عن مبادئ الإسلام العامة، وتنظيماته في الشؤون الدستورية.وهذا يسمى بالتعريف القانوني        

مما يوضح التعريفين السابقين، أن الأحكام والقواعد الدستورية في النظام الإسلامي تنقسم إلى قسمين:

1_ ثابتة2_ وغير ثابتة.

 فالثابتة هي ما ورد صريحا من قواعد عامة في نصوص القرآن والسنة، وما كان محل إجماع علماء المسلمين منها، في الشؤون الدستورية كالشورى، والعدالة، والمساواة، والتعاون.

 وغير الثابتة هي الأحكام المستنبطة عن طريق الاجتهاد والرأي، مما يتعلق بالأساليب والأنظمة، والتفصيلات التي تختلف تبعا لاختلاف ظروف الزمان والمكان.

ووفقا لما عليه الفقه الدستوري المعاصر الذي قسم الدساتير إلى جامدة ومرنة يجد الباحث في المقابل أن قواعد الدستور في الإسلام تشمل النوعين الجامد والمرن، وهي ما يقصد بها هنا الثابتة وغير الثابتة، فالثابتة تقابل الجامدة وغير الثابتة تقابل المرنة، ومن الأمثلة على القضايا الدستورية الثابتة في الإسلام عدم جواز تغيير دين الدولة الإسلامية، وقاعدة لا ضرر ولا ضرار. [6]

(صياغة الدستور):

  معروف أن السيادة في الإسلام لله وحده وليست للحكومة أو للشعب كما في بعض النظم، وبالتالي فالدولة تتقيد في سيادتها الداخلية والخارجية بالإسلام ولا تخرج على أحكامه، فأحكام الإسلام لها السيادة المطلقة، والأحكام الدستورية المتغيرة التي قد تدون فيما يسمى بوثيقة الدستور هي التي يكون المجال لنشوئها متروكا للأسلوب الذي يوافق ظروف الدولة الإسلامية وقت نشوء هذا الدستور الذي لا يخرج بحال عن أحكام الإسلام ولا يخالفها، وبالتالي فإن مسألة موافقة الحاكم أو الشعب على الدستور في ظل النظام الإسلامي مسألة نسبية، فالحكم المطلق والتشريع المطلق في الإسلام لله وحده، وإنما يكون اختيار الناس وموافقتهم فيما لم يرد فيه نص قاطع وما كان محلا للاجتهاد من أهل الاجتهاد كل في تخصصه حسب الوقائع فلكل واقعة تتطلب الاجتهاد وأهلها؛ فينبغي التفريق هنا بين تحرير الواقعة التي يؤخذ فيهما رأي ذوي الخبرة من ساسة واقتصاديين ومهندسين وأطباء، أو عامة مستفيدين مما كان منفعته عامة، وبين ما كان اجتهادا في إظهار الحكم الشرعي وليس ذلك إلا لذوي العلم بالشريعة من أفراد تكمل بهم أداة الاجتهاد تفسيرا وحديثا وفقها وأصولا ولغة وبلاغة.

 إذن فنشأة الدستور في الدولة الإسلامية مرتبطة بالتزام المجتمع، والدولة بالإسلام عقيدة وشريعة، ثم إن بيعة الناس للحاكم ملزمة للطرفين بالتحاكم إلى كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فإن الدولة المسلمة ملزمة بالدستور الإسلامي، ولا يتصور وجود حاكم مسلم أو دولة مسلمة غير ملتزمة بهذا الدستور.

وفي حالة تدوين دستور معين لدولة إسلامية، يجب النص على أن الحكم لله وحده، وأن السيادة المطلقة لله {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]وإن التشريع الملزم هو من عند الله {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] كما أنه لا يفضل وضع نص قرآني ضمن مواد الدستور؛ لأن مواد الدستور من طبيعتها التغير، وليس ذلك من طبيعة نصوص القرآن؛ ولأن النصوص القرآنية فوق النصوص الدستورية وبالتالي فإن وضعها مادة في الدستور إنقاص من شأنها، وإنما يستخلص الحكم الدستوري من الآية، ويذكر أن ذلك استنادا إلى الآية كذا، ومثال ذلك عندما يراد أن ينص على أن الشورى أساس من أسس الحكم، لا توضع آية: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] مادة كبقية المواد، وإنما يقال مثلا: " إن الشورى أساس من أسس الحكم "، ثم تفصل كيفية الشورى ونطاقها وفق ظروف الواقعة.

تدوين أول دستور إسلامي:

  بدأت حركة تدوين الدساتير في الدول الإسلامية بإعلان الدستور التونسي عام 1276هـ الموافق 1861م ثم الدستور العثماني عام 1293هـ الموافق 1876م. اللذين يمكن اعتبارهما أول دستورين إسلاميين بمعنى الدستور الخاص تم تدوينهما.[7]

(مصادر الدستور في الإسلام):

مصادر الأحكام في الشريعة الإسلامية تختلف عنها في القانون الوضعي، فمصدر الأحكام في الشريعة هو الوحي المتمثل في القرآن والسنة، وبقية المصادر تابعة للوحي، أما مصادر القانون الوضعي فهي بشرية ومرتكزة على نتاج الفكر البشري المجرد.

{المصدر الأول القرآن الكريم.}

  يتفق علماء القانون الدستوري الذين تكلموا في مصادر الدستور في الإسلام على أن القرآن الكريم هو المصدر الرئيس والأول للدستور، وأنه جاء فيما يتعلق بالأمور الدستورية بأحكام كلية ومبادئ أساسية، فأغلب ما ورد في القرآن الكريم من أحكام إنما هو أحكام كلية وقواعد عامة تجب مراعاتها في القضاء والاعتماد عليها في الاجتهاد، فلم يتعرض القرآن للتفصيلات أو الجزئيات في الأحكام الشرعية المتصلة بالقوانين؛ لاختلافها باختلاف البيئات وتغيرها بتغير المصالح، تاركا التفصيل في الجزئيات إلى السنة النبوية، والاجتهاد وفق ما تستدعيه المصلحة

وهذه الأحكام والقواعد الكلية الواردة في القرآن الكريم هي أحكام وقواعد فوق أحكام وقواعد الدستور، وفق المعنى الفني للدستور، فهي قواعد وأحكام فوق دستورية تلتزم السلطة التأسيسية التي تضع الدستور في كل دولة إسلامية باحترامها، فالدستور قابل للتعديل والتغيير وأحكام القرآن الكريم ليست كذلك.

 وقد وردت النصوص القرآنية تقرر  مبادئ أساسية يقوم عليها كل نظام دستوري عادل مما يعتبر من المسائل المهمة التي يرجع إليها عند وضع دستور إسلامي.ونذكر فيما يلي بعض هذه الآيات وما قررته في المجال الدستوري:

1 - الآيات المقررة لضرورة الشورى، مثل قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]

2 - الآيات المقررة لمبدأ العدل، مثل قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]  

3 - الآيات المقررة لمبدأ المساواة، مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]

4 - الآيات المقررة لضرورة الحكم بما أنزل الله، مثل قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]  

5 - الآيات المقررة لنظام القضاء والتقاضي بين الناس، وأنهم سواء أمام ساحة القضاء، مثل قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]  

6 - الآيات المتضمنة أحكاما للسلم والحرب، مثل قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61] وقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36]

7 - الآيات المتضمنة حقوق الأمة على الحاكم، مثل قوله تعالى:  {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]

8 - الآيات المتضمنة لحقوق الحاكم على الأمة، مثل قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] .

9 - الآيات المتضمنة لحق الحياة، مثل قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]

10 - الآيات المتضمنة للالتزام بالمعاهدات والوفاء بها، مثل قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72]  

11 - الآيات المتضمنة حق إبداء الرأي، مثل قوله تعالى: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] وقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة: 1] ) الآية  

12 - الآيات المتضمنة لحق الملكية، مثل قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]  

13 - الآيات المقررة لحرمة المسكن، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27]  

14 - الآيات المقررة لحق التكريم للإنسان، والذي تنفرد بذكره صراحة الشريعة الإسلامية، مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]  

15 - الآيات المقررة لصيانة الأموال العامة، مثل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161]

16 - الآيات المقررة لقاعدة الولاء والبراء في الإسلام، وهي ما تقابل في مصطلح الفقه المعاصر الخيانة العظمى مع الاختلاف في المنطلق

18 - الآيات المقررة لحسن الجوار، مثل قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]

19 - الآيات المقررة لرابطة الإنسانية وأنها فوق اعتبار الجنس والنوع، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]  

مما تقدم يتضح أن القرآن قد تضمن مسائل دستورية مهمة، ولكن يجب أن يلاحظ أن الآيات السابق ذكرها ليس المراد من إيرادها الحصر بل التمثيل، وإلا فإن من الممكن استخراج مسائل دستورية أخرى من القرآن الكريم.[8]   

[المصدر الثاني للتشريع السنة النبوية]

تعتبر السنة مصدرا رئيسا من مصادر التشريع،  فهي المصدر الثاني للتشريع بالاتفاق

يقول الحق سبحانه وتعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ويقول تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلِّموا تسليما} ويقول الحق سبحانه وتعالى {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة}

والسنّة موضحة ومفسّرة للقرآن الكريم كما جاء في قوله تعالى {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون}، وهي إما مفسرة لمجملات القرآن وإما مستقلة في التشريع بما ليس في القرآن، ولكن الرد إليها -حتى في حال الاستقلال- إنما هو رد إلى كتاب الله ، وفي مجال الدستور فإن علماء القانون الدستوري المسلمين المعاصرين متفقون على أن السنة مصدر رئيس للتشريع الدستوري الإسلامي،كما اتفقوا في شأن القرآن،ولكن بعضهم اشترط أن تكون من  السنة الثابتة بالتواتر وليست الآحاد وهذا كلام غير مقبول لأنه لا فرق بين آحاد ومتواتر في الاحتجاج بالسنة في جميع أصول الدين وفروعه.

 فالسنة النبوية تضمنت مبادئ دستورية شرعها الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بماله من صفة النبوة والتبليغ، وهذا مما يعتبر تشريعا كليا.

ثم أنه وردت نصوص السنة في الراعي والرعية، والبيعة والإمارة والطاعة للأمير، وكذلك في السنة تشريعات لحقوق الحاكم والأفراد ومسؤولياتهم، وكذلك السلم، والحرب، والمعاهدات، والقضاء، والشورى، ومركز الأقليات الدينية، مما يؤكد أن السنة تحوي قدرا كبيرا من المسائل الدستورية التي لها أهمية كبرى في مجال الدستور في النظام الإسلامي، وهذه السنة معتبرة إذا توافرت فيها شروط الصحة، سواء كانت متواترة أو مشهورة أو آحادا.

 [الإجماع المصدر الثالث للتشريع في الإسلام]

  يعتبر الإجماع المصدر الثالث للتشريع في الإسلام .

أما من حيث التشريع الدستوري الإسلامي، ومدى كون الإجماع مصدرا من مصادر الدستور فإن الوقائع في التاريخ الإسلامي تظهر أنه كان مصدرا من مصادر الأحكام الدستورية، ومن أمثلة ذلك إجماع الصحابة على وجوب الإمامة، وعرف هذا الوجوب في الشرع بإجماع الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذلك في كل عصر من عصور الدولة الإسلامية فلم يترك الناس فوضى في عصر من العصور ومن الأمثلة كذلك الإجماع على محاربة المرتدين، وغير ذلك من الوقائع الدستورية التي كان مصدرها الإجماع.

كيف يطبق الإجماع في الواقع:

لابد أن نعلم أن الأحكام الصادرة عن الإجماع نوعان: ثابتة، ومتغيرة، فالثابتة يعتبر الإجماع فيها مصدرا ملزما، كالإجماع في أمر من أمور العبادات،وهذا مدون ومحفوظ في المصنفات عن أئمتنا رحمهم الله والمتغيرة يعتبر الإجماع على حكم منها غير ملزم إلا في عصر الإجماع فقط، ومن هذا النوع الأحكام الدستورية وكيفية اختيار الإمام, فبعض العلماء يقترح إنشاء مجمع فقهي يضم جميع الفقهاء في العالم الإسلامي، وعلماء القانون ويجتمعون دوريا وينظرون في الوقائع المستجدة كما يستفاد من وسائل الاتصالات ليضمن وصوله إلى من لم يحضر.

[المصدر الرابع من مصادر التشريع الإسلامي الاجتهاد]

  الاجتهاد هو المصدر الرابع من مصادر التشريع الإسلامي، فإذا عرضت قضية ولم ينص على حكمها في الكتاب أو السنة أو الإجماع، فإن الكتاب والسنة دلا على مكانة الاجتهاد، وأنه طريق من طرق الوصول إلى الحكم الإسلامي.   

وفي مجال التشريع الدستوري فإن الاجتهاد يعتبر مصدرا من مصادر الدستور في النظام الإسلامي، بل هو أوسع المصادر مجالا بالنسبة للأحكام الدستورية. والاجتهاد في المسائل الدستورية يصدر عن طريق أولي الأمر ,وإذا صدر الاجتهاد بشأن مسألة دستورية من أولي الأمر وفقا لقواعد الاجتهاد الصحيحة يكون الحكم واجب الطاعة والتنفيذ، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] إذ هو اجتهاد صحيح مقترن بالأمر فتجب طاعته.

وللاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية أصول تحدثت عنها كتب الأصول والتشريع أهمها:

1 - القياس. 2 - الاستحسان. 3 - الاستصلاح.

4 - الاستصحاب. 5 - العرف.

ومن الأمثلة لبعض الأحكام الدستورية التي يمكن أن تستنبط عن طريق الاجتهاد باستخدام القياس، قياس أهل القوة والشوكة ممن يصلحون للإمارة على قريش، بجامع علة مشتركة بينهما هي القوة والشوكة فيكون الأمير من غير قريش على أن يكون من أهل القوة والشوكة  ومن الأمثلة كذلك ما فعله عمر رضي الله عنه من فصله للسلطة القضائية عن السلطة التنفيذية في بعض الأمور والأحوال، مستخدما المصلحة المرسلة، ومن ذلك يتضح أنه تم فعلا استنباط أحكام دستورية عن طريق الاجتهاد.

وباب الاجتهاد هذا - بقواعده الصحيحة - هو الينبوع الذي يمد الأحكام الدستورية في العصر الحديث بالروح، والحيوية، ويجعلها مرنة ومتطورة حسب الحاجة وفق إطار ثابت وسياج قوي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مما يعطي ثروة من الآراء والحلول في مجال الأحكام الدستورية، وهي بلا شك ليست ملزمة أو قطعية لطبيعتها الاجتهادية، ولذلك تعطى حكم المصادر الاحتياطية أو التفسيرية، ولا تكون ملزمة إلا في حالة تبني أولي الأمر لأحد الاجتهادات، وبالتالي تلزم الطاعة في وقت محدد، أي ليست ملزمة على مر العصور؛ لأنها من الأحكام المتغيرة بتغير الأحوال لا الأحكام الثابتة.[9]

 (خصائص الدستور الإسلامي)

1-  الربانية

قال تعالى:" إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا" (105)النساء 

وتنقسم الربانية إلى قسمين: أ- ربانية المصدر والمنهج.

 ب- ربانية الوجهة والغاية والقصد.

 أ-ربّانية المصدر والمنهج : يقول الحق سبحانه وتعالى{ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً}

ويقابل الربانية ما حدث في الأمم الأخرى من قبول التشريعات الوضعية كما فعل اليهود والنصارى حيث وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله:{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} وجاء في تفسيرها أنه أحلوا الحرام وحرّموا الحلال.

 ب- أما ربانية الغاية والوجهة والقصد فمعناها أن الإسلام يجعل غاية الإنسان الأخيرة وهدفه البعيد هو حسن الصلة بالله تبارك وتعالى والحصول على مرضاته {قل إنني هداني ربّي إلى صراط مستقيم ديناً قِيَماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء}

وللربّانية ثمرات تجعل النظم الإسلامية تتصف بما يأتي:

أ- العصمة من التناقض والاختلاف الذي تعانيه المناهج والأنظمة البشرية.

ب- البراءة من التحيز والهوى{يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}

جـ- التحرر من عبودية الإنسان للإنسان. كان ملوك الفرس يزعمون أنه تجري في عروقهم دماء زرقاء تستلزم استعباد الآخرين. وكان الرومان يرون أن جميع سكان الإمبراطورية عبيد لسكان روما. وكانت مدينة أثينا تتكون من خمسة آلاف من الأحرار يخدمهم جيش من العبيد يزيد على ثلاثين ألف.

2- السمو: يتميز الدستور في النظام الإسلامي عنه في النظم الوضعية باختلاف درجة السمو لقواعده وأحكامه ونصوصه لأن التشريع الإسلامي من عند الله، فقد يرد نص قاطع في مسألة ما وهي ليست دستورية، وبالتالي فإن على واضع الدستور في الدولة الإسلامية ألا يخالف هذا النص ولو كان محله التشريع العادي أو الفرعي؛ لأن النص يعلو على غيره وليس العكس.

 3- الشمول والعموم:

شمول يستوعب الإنسان كلَّه، ويستوعب الحياة كلها ، ويستوعب كيان الإنسان كله " والنظم الإسلامية تصلح لكل الأمم ولكل الأجناس ولكل الشعوب ولكل الطبقات

4- التطور والثبات:

يتمثل الثبات في الأهداف والغايات والمرونة في الوسائل والأساليب. فالثبات في الكليات والقيم الدينية والأخلاقية والمرونة في الشؤون الدنيوية والعلمية.   تتميز القواعد الدستورية في النظام الإسلامي بالثبات في الأسس والمبادئ الكلية كالشورى والعدل،وغيرها من القواعد الكلية الثابتة التي لا يأباها عقل سليم ولا فطرة سوية,وهذه الميزة تميز النظام الدستوري الإسلامي عن غيره من الأنظمة التي لا تعرف الثبات لشيء من القواعد إلا ما استقر عليه العرف بثباته ويزول بزوال هذا العرف، وبالتالي يفقد صفة الثبات، ويوصم بأنه متغير متحول دائما حسب الظروف والأحوال،لا تقيد بأصل ثابت، ولا قيمة ثابتة، ولا حقيقة ثابتة يتغير في إطارها، هذا التغير يجعله يجرى دائما وراء تصورات متقلبة منبعها الفكر البشري المحدود. ومما لا شك فيه أن مجتمعا يحكمه هذا النظام معرض دائما للهزات والتأرجح.

 5- التوازن والوسطية:

وقد تحقق التوازن في النظام الإسلامي في الأمور الآتية: الروحية والمادية والواقعية والمثالية والفردية والجماعية والثبات والتغير. ففي التوازن بين المادية والروحية ما عرف عن اليهود من الإغراق في المادية وحب الدنيا حتى وصفهم الله تعالى بقوله {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة}، أما النصارى فقد مالوا إلى الرهبانية وكبت الفطرة ومن ذلك قوله تعالى {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم}

 أما في الإسلام فقد ورد في حديث الثلاثة الذين نظروا في عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وكأنهم تقالّوها فقال أحدهم أما أنا فأصوم ولا أفطر وقال الثاني أما أنا فأقوم ولا أنام وقال الثالث وأنا لا أتزوج النساء فعلم بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال (أما والله إني لأتقاكم لله وإني لأصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس منّي) وجاء في حديث آخر (إن لبدنك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً وإن لزورك (زائرك) عليك حقاً فأعط لكل ذي حق حقه)

 6-المرونة:يتميز الدستور الإسلامي بالمرونة في الأمور الاجتهادية الوقتية التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، فالإسلام لم يأت فيما يتعلق بالأمور الدستورية بأمور تفصيلية صرفة، وإنما جاء بالمبادئ الدستورية الأساسية، ولم يحدد التفاصيل والجزئيات التي تختلف من عصر لآخر حسب اختلاف الزمان المكان،

 فالأمور المتصلة بالأمور الحاجية والتحسينية التي تتعلق بكيفية استيفاء المتطلبات الحاجية والتحسينية أمور تختلف حسب الظروف ومقتضايات الزمن، ولذلك فهي تتطلب المرونة والتطور حسب هذه المقتضيات,والتطور والمرونة في إطار هذه الكليات لما هو ليس بكلي.

أما مصادر الدستور الوضعي:

هي:1_ الفقه القانوني2- والقضاء 3_والعرف 4- والتشريع. [10]

(أمثلة للدستور الإسلامي)

 أولاً:الوثيقة النبوية:   

بسم الله الرحمن الرحيم

1 - هذا كتاب من محمد النبي، بين المؤمنين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.

2 - إنهم أمة واحدة من دون الناس.

3 - المهاجرون من قريش على ربعتهم (1) يتعاقلون (2) بينهم معاقلهم الأولى وهم يفدون عانيهم (3) بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

(1) ربعتهم: حالتهم وشأنهم، والمعنى: الحال التي جاء الإسلام وهم عليها.

(2) يتعاقلون: من العقل وهو الدية، المعاقل: الديات واحدتها معقلة.

(3) العاني: الأسير.

4 - وبنو عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالقسط والمعروف بين المؤمنين.

5 - وبنو الحارث(بن الخزرج) على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالقسط والمعروف بين المؤمنين.

(6) وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

7 - وبنو جشم على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

8 - وبنو النجار على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

9 - وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

10 - وبنو النبيت على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 

11 - وبنو الأوس على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

جمع الحديث بطون الأنصار من الأوس والخزرج كل بطن منها على رباعته.

12 - وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. المفرح: المثقل بالدين، وتروى بالجيم، وهي بنفس المعنى.

وفي نسخة مفرجا- بينهم أن يعطوه بالمعروف : المفرح والمفرج الذي أثقله الدين ولا يجد قضاءه وليس له ولاء ولا عشيرة فعليهم أن يعينوه إن كان أسيرا فك أسره وإن كان جنى جناية خطأ عقلوا عنه.الأموال لأبي عبيد(218)بتصرف

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْمُفْرَحُ: الْمُثْقَلُ بِالدَّيْنِ وَالْكَثِيرُ الْعِيَالِ.

13 - وإن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.

14 - وإن المؤمنين المتقين على من بغي منهم أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثم أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم.

  الدسيعة: العظيمة، وهي في الأصل: ما يخرج من حلق البعير إذا رغا والمقصود أنه يجب عليهم أن يتعاونوا على كل من طلب منهم عطية على سبيل الظلم والعدوان.  

 ظلم. 15 - ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ولا ينصر كافرا على مؤمن.

والمعنى أنه لا يجوز لمؤمن أن يقتل مؤمنا في سبيل كافر إذا كان هو ولي الدم.

16 - وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض، دون الناس.

17 - وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصرة والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.

18 - وإن سِلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم.

19 - وإن كل غازية غزت معنا، يعقب بعضها بغضا.

  أي يتناوبون فإذا خرجت طائفة غازية ثم عادت تكلف أن تعود ثانية حتى تعقبها أخرى غيرها.

 20 - وإن المؤمنين يبيء بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.   يبيء: من البواء وهو المساواة.وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُبِيءُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ يَعْنِي أَنَّ دِمَاءَهُمْ مُتَكَافِئَةٌ

21 - وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه.

22 - وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن.

23 - وإنه من اعتبط  مؤمنا قتلا عن بينة، فإنه قود به، إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.

 اعتبطه: أي قتله بلا جناية توجب القتل.

24 - وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا، أو يؤويه، وأن من نصره فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه عدل ولا صرف.

  الْمُحْدِثُ: كُلُّ مَنْ أَتَى حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَنْعُهُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.

25 - وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل والى محمد صلى الله عليه وسلم.

26 - وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

  فَهُوَ النَّفَقَةُ فِي الْحَرْبِ خَاصَّةً، شَرَطَ عَلَيْهِمُ الْمُعَاوَنَةَ لَهُ عَلَى عَدُوِّهِ، وَنَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يُسْهِمُ لِلْيَهُودِ إِذَا غَزَوْا مَعَ الْمُسْلِمِينَ لِهَذَا الشَّرْطِ الَّذِي شَرَطَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّفَقَةِ، وَلَوْلَا هَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ سَهْمٌ.

27 - وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ  إلا نفسه وأهل بيته.

  يوتغ: يهلك.

28 - وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.

29 - وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.

30 - وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.

31 - وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.

32 - وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.

33 - وإن ليهود بني ثغلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.

34 - وإن جفنة بطن من ثعلبه كأنفسهم.

35 - وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف.

36 - وإن البر دون الإثم.

37 - وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.

38 - وإن بطانة يهود كأنفسهم.

39 - وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم.

40 - وإنه لا ينحجز على ثأر جرح .

  الحجز: المنع، وحجز عليه ماله أي حبسه، والانحجاز مطاوعة، وكل من ترك شيئا فقد انحجز، أي لا يترك ثأر جرح، وذكر ثأر الجرح لبيان أخفى أفراد القود، لبيان شدة الأمر وأنه لا يغمض عن أدنى جناية، ولا يعفي، ويمكن أن تكون هذه الجملة كناية عن التشديد في مواد العهد، أي لا يترك شيء من مواد العهد، فتكون الجملة كالمثل السائر يستعمل في أمثال المقام، وعلى هنا بمعنى من كما في قوله تعالى: وإذا اكتالوا على الناس يستوفون ولعل هذا التأكيد والتهديد، من أجل علمه صلى الله عليه وسلم بغدر اليهود وغوائلهم وقلة مبالاتهم بعهودهم، وشدة عداوتهم للإسلام والمسلمين.

41 - وإنه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظلم.

42 - وإن الله على أبر هذا .

  علي أبر هذا: أي علي الرضا به.

43 - وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم.

44 - وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.

45 - وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.

46 - وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم.

4 - وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.

48 - وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.

49 - وإنه لاتجار حزمة إلا بإذن أهلها .

 أي لا تعطى ذمة ولا عهد، والمراد بالحزمة هنا الجوار، فلا يجير الجار مستجيرا إلا بإذن مجيره.

50 - وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

51 - وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.

52 - وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها.

  أي لا تعطى عهدا ولا ذمة، والذمة الأمان.

53 - وإن بينهم النصر على من دهم يثرب وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه.

54 - وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين - إلا من حارب في الدين - على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.

55 - وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة.

56 - وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه.

57 - وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.

58 - وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم.

59 - وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.[11]  

  قال أبو عبيد: إنما كتب رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذَا الكتاب قبل أن تفرض الجزية، وإذ كان الإسلام ضعيفًا. قال: وكان لليهود. إذ ذاك نصيب في المغنم إذا قاتلوا مع المسلمين، كما شرط عليهم في هذا الكتاب النفقة معهم في الحروب.[12]

 (تخريج الوثيقة)

  وردت هذه الوثيقة بهذا النص المطول عن ابن إسحاق مرسلة، كما ذكر ذلك ابن كثير في البداية البداية والنهاية  (3 / 224)  

 وابن هشام في السيرة، (1 / 504)  

 وابن إسحاق هو أول من أورد نص الوثيقة كاملا، وقد ذكر ابن سيد الناس أن ابن أبي خيثمة أورد الوثيقة في تاريخه بهذا الإسناد، حدثنا أحمد بن خباب أبو الوليد حدثنا عيسى بن يوسف حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار فذكر بنحوه، أي بنحو ما أورد ابن إسحاق.

ويبدو أن الوثيقة وردت في القسم المفقود من تاريخ ابن أبي خيثمة كما وردت الوثيقة في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام بإسناده إلى الزهري قال :بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب.... وساق الكتاب. أبوعبيد في الأموال(518)

كما وردت الوثيقة في كتاب الأموال لابن زنجويه من طريق الزهري أيضا.الأموال(750)

هذه هي الطرق التي وردت بها الوثيقة بنصها الكامل، وهي متطابقة إلى حد كبير سوى بعض التقديم والتأخير أو اختلاف بعض العبارات مما لا يؤثر على مضمونها وأوردها البيهقي في السنن بإسناده مختصره عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، قَالَ: أَخَذْتُ مِنْ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هَذَا الْكِتَابَ، كَانَ مَقْرُونًا بِكِتَابِ الصَّدَقَةِ الَّذِي كَتَبَ عُمَرُ لِلْعُمَّالِ:وساقها باختصار. السنن الكبرى للبيهقي (8/ 184)

(شواهد الوثيقة):

     كتب الحديث أوردت مقتطفات كثيرة تشمل جزءا كبيرا منها بأسانيد متصلة وبعضها أوردها البخاري ومسلم،مما يدل على أن لها أصلا في الشرع  وقد احتج بها الفقهاء وبنو عليها الأحكام، كما أن بعضها ورد في مسند أحمد، وسنن أبي داود وابن ماجه والترمذي بطرق مستقلة عن الطرق التي وردت منها الوثيقة

 ومن ذلك ما يلي:

1-عن أبي جحيفة قال سألت عليا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِمَّا لَيْسَ فِي القُرْآنِ؟ وَقَالَ مَرَّةً: مَا لَيْسَ عِنْدَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: «وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا عِنْدَنَا إِلَّا مَا فِي القُرْآنِ، إِلَّا فَهْمًا يُعْطَى رَجُلٌ فِي كِتَابِهِ، وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ» قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: «العَقْلُ، وَفِكَاكُ الأَسِيرِ، وَأَنْ لاَ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» خ(6903)

 2- وعَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ غَيْرَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: فَأَخْرَجَهَا، فَإِذَا فِيهَا أَشْيَاءُ مِنَ الجِرَاحَاتِ وَأَسْنَانِ الإِبِلِ، قَالَ: وَفِيهَا: «المَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ  القِيَامَةِ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ. وَمَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ. وَذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ»خ(6755)  ومسلم(1370)

3- و عَنْ أَبِي حَسَّانَ، أَنَّ عَلِيًّا، كَانَ يَأْمُرُ بِالْأَمْرِ فَيُؤْتَى، فَيُقَالُ: قَدْ فَعَلْنَا كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْأَشْتَرُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي تَقُولُ قَدْ تَفَشَّغَ فِي النَّاسِ، أَفَشَيْءٌ عَهِدَهُ إِلَيْكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ عَلِيٌّ: مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا خَاصَّةً دُونَ النَّاسِ، إِلا شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْهُ فَهُوَ فِي صَحِيفَةٍ فِي قِرَابِ سَيْفِي، قَالَ: فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَخْرَجَ الصَّحِيفَةَ، قَالَ: فَإِذَا فِيهَا: " مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ " قَالَ: وَإِذَا فِيهَا: " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ، حَرَامٌ مَا بَيْنَ حَرَّتَيْهَا وَحِمَاهَا كُلُّهُ، لَا يُخْتَلَى خَلاهَا، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا، إِلا لِمَنْ أَشَارَ بِهَا، وَلا تُقْطَعُ مِنْهَا شَجَرَةٌ إِلا أَنْ يَعْلِفَ رَجُلٌ بَعِيرَهُ، وَلا يُحْمَلُ فِيهَا السِّلاحُ لِقِتَالٍ " قَالَ: وَإِذَا فِيهَا: " الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، أَلا لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ "مسند أحمد برقم(959)وأبو حسان الأعرج روايته عن علي مرسلة.لكن يشهد لها ما في الصحيح. وقوله: "تَفَشغ"، أي: فشا وانتشر.

 4- وعن عَاصِمٌ الأحول قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، مَا بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا، لاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ، قَالَ عَاصِمٌ: فَأَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَوْ آوَى مُحْدِثًا»خ(73.6) مسلم (1366)  

5-وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار، أن يعقلوا معاقلهم وأن يفدوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين»وهذا عند أحمد رقم(69.5)فيه الحجاج بن أرطاة كثير الخطأ والتدليس.والمعاقل: الديات، جمع معْقُلة. قاله ابن الأثير. وقال السندي: أي: عقد المؤاخاة بينهم، وأن يحمل الأنصار عقل المهاجرين، وبالعكس.والعاني: الأسير.

6-وعن أَبُي الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، يَقُولُ: كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى كُلِّ بَطْنٍ عُقُولَهُ» ، ثُمَّ كَتَبَ: «أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُتَوَالَى مَوْلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ» ، ثُمَّ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ لَعَنَ فِي صَحِيفَتِهِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ.مسلم(15.7)

"عقوله" قال النووي :هو بضم العين والقاف ونصب اللام مفعول كتب، والهاء ضمير البطن، والعقول: الديات، واحدها عقل: كفَلْس وفُلُوس، ومعناه أن الدية في قتل الخطأ وعمد الخطأ، تجب على العاقلة، وهم العَصَبات سواء الآباء والأبناء، وإن عَلَوْا أو سَفَلُوا.

7-وعن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة قتل كعب بن الأشرف، وقال في آخر الحديث: «. . .وَدَعَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ كِتَابًا، يَنْتَهُونَ إِلَى مَا فِيهِ فَكَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً صَحِيفَةً» أبو داود(3000)

 8-وعن  عَاصِمٌ الأحول، قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ» فَقَالَ: «قَدْ حَالَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ فِي دَارِي»خ(6083)

وعند أبي داود بلفظ«حَالَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِنَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا»د(2926)

(أقوال العلماء في إثبات نص الوثيقة):

قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسِّيَرِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَادَعَ يَهُودَ كَافَّةً عَلَى غَيْرِ جِزْيَةٍ. الأم للشافعي (4 / 222)

قال ابن تيمية:....لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وادع جميع اليهود الذين كانوا بها موادعة مطلقة ولم يضرب عليهم جزية وهذا مشروع عند أهل العلم بمنزلة المتواتر بينهم حتى قال الشافعي: لم أعلم مخالفا من أهل العلم بالسير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل المدينة وادع يهود كافة على غير جزية وهو كما قال الشافعي.

وذلك أن المدينة كان فيما حولها ثلاثة أصناف من اليهود وهم: بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة وكان بنو قينقاع والنضير حلفاء الخزرج وكانت قريظة حلفاء الأوس فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم هادنهم ووادعهم مع إقراره لهم ولمن كان حول المدينة من المشركين من حلفاء الأنصار على حلفهم وعهدهم الذي كانوا عليه حتى أنه عاهد اليهود على أن يعينوه إذا حارب ثم نقض العهد بنو قينقاع ثم النضير ثم قريظة.

قال محمد بن إسحاق يعني في أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة: وكتب رسول الله كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم وشرط لهم.

الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 62) وكذا قال ابن القيم أحكام أهل الذمة (3 / 1404)

 وقال ابن تيمية:وهذه الصحيفة معروفة عند أهل العلم.

  ثم استشهد بحديث جابر بن عبد الله الذي رواه مسلم «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كتب على كل بطن عقولة» والذي ذكرناه سابقا. الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 64)  وكذا ابن القيم في أحكام أهل الذمة (3 / 1408)

قال ابن القيم:فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَالَحَ الْيَهُودَ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، فَلَمَّا حَارَبُوهُ وَنَقَضُوا عَهْدَهُ وَبَدَءُوهُ بِالْقِتَالِ قَاتَلَهُمْ. هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (1 / 238)

قال ابن حجر:

 وَذكر ابن إِسْحَاقَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادَعَ الْيَهُودَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَامْتَنَعُوا مِنِ اتِّبَاعِهِ فَكَتَبَ بَيْنَهُمْ كِتَابًا. فتح الباري لابن حجر (7 / 275)

  وهذا مشهور عند أهل العلم بمنزلة التواتر بينهم.

ِ

 

وبذلك يتبين أن الوثيقة لها أصل في الشرع وتفصيل ذلك من عدة وجوه:

1 - ثبوت المحالفة بين المهاجرين والأنصار، وكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك.

2 - ثبوت موادعة اليهود، وكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك.

3 - أن الوثيقة وردت من طرق عديدة تتضافر في إكسابها القوة.

4 - أن الزهري علم كبير من أعلام الرواة الأوائل في كتابة السيرة النبوية.

5 - أن أسلوب الوثيقة يدل على أصالتها، فنصوصها مكونة من جمل قصيرة وغير معقدة، وفيها كلمات وتعابير كانت مألوفة في العهد النبوي.

 6 - أنه ليس في الوثيقة نصوص تمدح أو تقدح فردا، أو جماعة، أو أي قرينة يمكن القول معها بأنها مزورة.

7 - التشابه الكبير بين أسلوبها، وأساليب كتب النبي صلى الله عليه وسلم الأخرى يعطيها توثيقا آخر.

8 - أن الأحكام المستنتجة من الوثيقة يمكن استنتاجها من عموميات النصوص الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد التي ذكرنا طرفا منها.[13]

ما يستفاد من الوثيقة:

1 - تحديد مفهوم الأمة:

  فالأمة في الصحيفة تضم المسلمين جميعا مهاجريهم وأنصارهم ومن تبعهم، ممن لحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة، من دون الناس وهذا شيء جديد   في تاريخ الحياة السياسية في جزيرة العرب، إذ نقل الرسول صلى الله عليه وسلم قومه من شعار القبلية، والتبعية لها إلى شعار الأمة، التي تضم كل من اعتنق الدين الجديد، فلقد قالت الصحيفة عنهم «أمة واحدة»   وقد جاء به القرآن الكريم قال تعالى (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 92].لقد انصهرت طائفتا الأوس والخزرج في جماعة الأنصار، ثم انصهر الأنصار والمهاجرون في جماعة المسلمين، وأصبحوا أمة واحدة تربط أفرادها رابطة العقيدة وليس الدم، فيتحد شعورهم وتتحد أفكارهم وتتحد قبلتهم ووجهتهم، وولاؤهم لله وليس للقبيلة.

2 - المرجعية العليا لله ورسوله:

جعلت الصحيفة الفصل في كل الأمور بالمدينة يعود إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقد نصت على مرجع فض الخلاف وقد جاء فيها: «وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم»  فقد حددت الصحيفة مصدر السلطات الثلاث؛ التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على تنفيذ أوامر الله من خلال دولته الجديدة، لأن تحقيق الحاكمية لله على الأمة هو محض العبودية لله تعالى؛ لأنه بذلك يتحقق التوحيد ويقوم الدين قال تعالى: (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف: 40].

3 - إقليم الدولة:

وجاء في الصحيفة: «وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة» وأصل التحريم أن لا يقطع شجرها، ولا يقتل طيرها، فإذا كان هذا هو الحكم في الشجر والطير فما بالك في الأموال والأنفس فهذه الصحيفة حددت معالم الدولة: أمة واحدة، وإقليم هو المدينة، وسلطة حاكمة يرجع إليها وتحكم بما أنزل الله.

ثم اتسع (الإقليم) باتساع الفتح، ودخول شعوب البلاد المفتوحة في الإسلام حتى عم مساحة واسعة في الأرض والبحر.

4 - الحريات وحقوق الإنسان:

إن الصحيفة تدل بوضوح وجلاء على عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم، في صياغة موادها وتحديد علاقات الأطراف بعضها ببعض، فقد كانت موادها مترابطة وشاملة، وتصلح لعلاج الأوضاع في المدينة آنذاك، وفيها من القواعد والمبادئ ما يحقق العدالة المطلقة، والمساواة التامة بين البشر، وأن يتمتع بنو الإنسان على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأديانهم بالحقوق والحريات بأنواعها، فقد أعلنت الصحيفة أن الحريات مصونة، كحرية العقيدة والعبادة وحق الأمن، إلخ، فحرية الدين مكفولة: «للمسلمين دينهم ولليهود دينهم» قال تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 256]. وقد أنذرت الصحيفة بإنزال الوعيد، وإهلاك من يخالف هذا المبدأ أو يكسر هذه القاعدة، وقد نصت الوثيقة على تحقيق العدالة بين الناس، وعلى تحقيق مبدأ المساواة.

لقد أوجب الإسلام على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس، دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم، أو أحوالهم الاجتماعية، فهو يعدل بين المتخاصمين، ويحكم بالحق، ولا يهمه أن يكون المحكوم لهم أصدقاء أو أعداء، أغنياء أو فقراء، عمالاً أو أصحاب عمل، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8].

5_ترسيخ مبدأ المساواة يعد مبدأ المساواة أحد المبادئ العامة، التي أقرها الإسلام، وهي من المبادئ التي تساهم في بناء المجتمع المسلم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى »

  فقد جاءت نصوص صريحة في الصحيفة تبين هذا المبدأ ، منها: «أن ذمة الله واحدة» وأن المسلمين «يجير عليهم أدناهم» وأن «بعضهم موالي بعض دون الناس» ومعنى الفقرة الأخير أنهم يتناصرون في السراء والضرا وأن «المؤمنين يبيء بعضهم علي بعض بما نال دماءهم في سبيل الله»ومعنى قوله يُبيء هو من البواء، أي: المساواة)

إن هذا المبدأ كان من أهم المبادئ التي جذبت الكثير من الشعوب قديما نحو الإسلام فكان هذا المبدأ مصدراً من مصادر القوة للمسلمين الأولين.

وليس المقصود بالمساواة هنا (المساواة العامة) بين الناس جميعاً في كافة أمور الحياة، كما ينادي بعض المخدوعين ويرون ذلك عدلاً  فالاختلاف في المواهب والقدرات، والتفاوت في الدرجات غاية من غايات الخلق، ولكن المقصود المساواة التي دعت إليها الشريعة الإسلامية، مساواة مقيدة بأحوال، وليست مطلقة في جميع الأحوال فالمساواة تأتي في معاملة الناس أمام الشرع، والقضاء، وكافة الأحكام الإسلامية، والحقوق العامة دون تفريق بسبب الأصل، أو الجنس، أو اللون، أو الثروة أو الجاه، أو غيرها

 6 - الإعلان عن قيام الدولة الإسلامية، وأن شعبها يتكون من: مهاجري مكة وأنصار المدينة، مضافا إليهم كل من أبدى استعدادا للتبعية لهذه الوحدة، وخضع لقيادة دولتها من الأقليات الأخرى القاطنة المدينة.

 7- نصت الوثيقة على مواد في التكافل الاجتماعي بين أفراد الدولة.  

8 - نصت الوثيقة على إقامة العدل، وتنظيم القضاء، ونقله من الأفراد والعشيرة إلى الدولة دون محاباة، ودون السماح لأحد بالتدخل وتعطيل القانون.

 9 - قررت الوثيقة مبدأ شخصية العقاب.يعني لا تزر وازرة وزر أخرى.

 10 - أوردت الوثيقة نصوصا في بيان مركز الأقليات الدينية.

7 - أوردت الوثيقة نصوصا في بيان الحقوق، كحق الحياة .

8 - أوردت الوثيقة نصوصا في بيان الحريات والحقوق كحق احترام عقيدة الآخرين، وعدم الإكراه في الدين.

9 - حددت الوثيقة أساس المواطنة في الدولة الناشئة، وهو الإسلام، فأحلت الرابطة الدينية بدلا من الرابطة القبلية.

10 - عينت الوثيقة أن المرجع عند الاختلاف رئيس الدولة.

11 - قررت الوثيقة مبدأ المساواة.

12 - نصت الوثيقة على عدم جواز إبرام الصلح المنفرد مع أعداء الأمة.

13 - نصت الوثيقة على مبادئ غير سياسية أو غير دستورية أصلا، وذلك لإعطائها أهمية ومكانة، ولإلزام أطراف هذه الوثيقة بالنزول على حكمها، وذلك لإعطائها سمو ومكانة ليست لأحكام القانون العادي، ولمنحها شيئا من الثبات، وذلك لأهميتها حين وضع الوثيقة،  

14 - أبقت الوثيقة على بعض الأعراف القديمة، التي كان العرب متعارفين عليها قبل الإسلام  فنشؤ الدولة الإسلامية لم يؤد إلى الإلغاء لوظائف القبيلة الاجتماعية، ذلك أنها لم تكن شرا كلها.

*والحقيقة أن هذه الوثيقة جاءت واضحة في نصوصها على غير مثال سبقها، وشملت نصوصها أغلب ما احتاجته الدولة الناشئة في تنظيم شؤونها السياسية، وتتضح دقة صياغة هذه الوثيقة، من خلال النظر في نصوص المعاهدات الدولية، والدساتير في العصر الحديث، وما تثيره نصوصها من خلاف في المعنى والتطبيق.

 فهذه الوثيقة قد اشتملت على أتم ما قد تحتاج الدولة من مقوماتها الدستورية والإدارية، وعلاقة الأفراد بالدولة، وكان القرآن يتنزل في المدينة عشر سنين، يرسم للمسلمين، خلالها مناهج الحياة، ويرسي مبادئ الحكم، وأصول السياسة، وشئون المجتمع وأحكام الحرام والحلال وأسس التقاضي، وقواعد العدل، وقوانين الدولة المسلمة في الداخل والخارج، والسنة الشريفة تدعم هذا وتشيده، وتفصله في تنوير وتبصرة، فالوثيقة خطت خطوطاً عريضة في الترتيبات الدستورية، وتعتبر في القمة من المعاهدات التي تحدد صلة المسلمين بالأجانب الكفار المقيمين معهم، في شيء كثير من التسامح والعدل والمساواة، وعلى التخصيص إذا لوحظ أنها أول وثيقة إسلامية، تسجل وتنفذ في أقوام كانوا منذ قريب وقبل الإسلام أسرى عصبية القبلية، ولا يشعرون بوجودهم إلا من وراء الغلبة، والتسلط وبالتخوض في حقوق الآخرين وأشيائهم.[14]

هل تطلق كلمة الدستور علي هذه الوثيقة وغيرها التي بينت منهج الحكم في دولة الإسلام؟

يقول محمد سعيد رمضان:

إن كلمة (الدستور) هي أقرب إطلاق مناسب في اصطلاح العصر الحديث على هذه الوثيقة. وهي إذا كانت بمثابة إعلان دستور فإنه شمل جميع ما يمكن أن يعالجه أي دستور حديث يعنى بوضع الخطوط الكلية الواضحة لنظام الدولة في الداخل والخارج؛ أي فيما يتعلق بعلاقة أفراد الدولة بعضهم مع بعض، وفيما يتعلق بعلاقة الدولة مع الآخرين.

وحسبنا هذا الدستور الذي وضعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بوحي من ربه واستكتبه أصحابه، ثم جعله الأساس المتفق عليه فيما بين المسلمين وجيرانهم اليهود. حسبنا ذلك دليلا على أن المجتمع الإسلامي قام منذ أول نشأته على أسس دستورية تامة، وأن الدولة الإسلامية قامت- منذ أول بزوغ فجرها- على أتم ما قد تحتاجه الدولة من المقومات الدستورية والإدارية.[15]

لكن من العلماء من يعترض على إطلاق هذا الاصطلاح على المسميات الشرعية.

 نقل الشيخ بكر أبو زيد عن أبي الأعلى المودودي قوله:

ومن ثم نرى كثيراً من الرجال المثقفين يقضون عجباً ويسألوننا في حيرة إذا ذكرنا لهم الأحكام الدستورية في القرآن: أو في القرآن آية تتعلق بالدستور؟ والواقع أنه لا داعي إلى العجب لحيرة مثل هؤلاء الأفراد، فإن القرآن ما نزلت فيه سورة سميت بالدستور ولا نزلت فيه آية بمصطلحات القرن العشرين) اهـ.[16]  

 ثانيا الوثيقة العمرية:

  عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ: كَتَبْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ لِعَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصَارَى مَدِينَةِ كَذَا وَكَذَا، إِنَّكُمْ لَمَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا سَأَلْنَاكُمُ الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَذَرَارِيِّنَا وَأَمْوَالِنَا، وَأَهْلِ مِلَّتِنَا وَشَرَطْنَا لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا:

1- أَنْ لَا نُحْدِثَ فِي مَدِينَتِنَا، وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا كَنِيسَةً وَلَا قِبْلَةً، وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ، وَلَا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْهَا، وَلَا نُحْيِيَ مَا كَانَ مِنْهَا مِنْ خُطَطِ الْمُسْلِمِينَ،

2- وَلَا نَمْنَعَ كَنَايِسَنَا أَنْ يَنْزِلَهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَ لَيَالٍ نُطْعِمُهُمْ.

3-وَلَا نُئْوِي فِي مَنَازِلِنَا وَلَا كَنَائِسِنَا جَاسُوسًا،4- وَلَا نَكْتُمَ غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ.

5- وَلَا نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ،6- وَلَا نُظْهِرَ شِرْكًا، وَلَا نَدْعُو إِلَيْهِ أَحَدًا.

7- وَلَا نَمْنَعَ مِنْ ذَوِي قَرَابَاتِنَا الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ إِنْ أَرَادُوهُ.

8- وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ، وَنَقُومَ لَهُمْ مِنْ مَجَالِسِنَا إِذَا أَرَادُوا الْجُلُوسَ.

9- وَلَا نَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ فِي قَلَنْسُوَةٍ، وَلَا عِمَامَةٍ، وَلَا نَعْلَيْنِ، وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ.

10- وَلَا نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِمْ،11 -وَلَا نَتَكَنَّى بِكُنَاهُمْ،12- وَلَا نَرْكَبَ السُّرُجَ،13- وَلَا نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ.

14- وَلَا نَتَّخِذَ  شَيْئًا مِنَ السِّلَاحِ، وَلَا نَحْمِلَهُ مَعَنَا،15- وَلَا نَنْقُشَ عَلَى خَوَاتِيمِنَا بِالْعَرَبِيَّةِ.

16- وَلَا نَبِيعَ الْخُمُورَ،17- وَأَنْ نَجُزَّ مَقَادِمَ رُءُوسِنَا،18- وَأَنْ نَلْزَمَ زِيَّنَا حَيْثُ مَا كُنَّا.

19- وَأَنْ نَشُدَّ زَنَانِيرَنَا عَلَى أَوْسَاطِنَا،20- وَأَنْ لَا نُظْهِرَ الصَّلِيبَ عَلَى كَنَائِسِنَا وَلَا كُتُبِنَا.

21- وَلَا نَجْلِسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقِهِمْ.

 22-وَلَا نَضْرِبَ بِنَوَاقِيسِنَا فِي كَنَائِسِنَا إِلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا23- وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا بِالْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِنَا فِي شَيْءٍ مِنْ حَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ24- وَلَا نُخْرِجَ سَعَانِينَا وَلَا بَاعُوثَنَا25- وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا مَعَ مَوْتَانَا، وَلَا نُظْهِرَ النِّيرَانَ مَعَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقِهِمْ، وَلَا نُجَاوِرَهُمْ بِمَوْتَانَا.

26- وَلَا نَتَّخِذَ مِنَ الرَّقِيقِ مَا جَرَى عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ،27- وَلَا نَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ. فَلَمَّا أَتَيْتُ عُمَرَ بِالْكِتَابِ زَادَ فِيهِ:

 28-وَلَا نَضْرِبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ شَرَطْنَا ذَلِكَ لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا وَقَبِلْنَا عَلَيْهِ الْأَمَانَ، فَإِنْ نَحْنُ خَالَفْنَا عَنْ شَيْءٍ مِمَّا شَرَطْنَاهُ لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا فَلَا ذِمَّةَ لَنَا، وَقَدْ حَلَّ لَكُمْ مِنَّا مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ " معجم ابن الأعرابي (1 / 207)و  السنن الكبرى للبيهقي (9 / 339)من طريق يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي الْعَيْزَارِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالْوَلِيدِ بْنِ نُوحٍ، [وَالسَّرِيِّ] بْنِ مُصَرِّفٍ يَذْكُرُونَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ: كَتَبْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ صَالَحَ نَصَارَى أَهْلِ الشَّامِ.ويحيي بن عقبة ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة وقال ابن معين:كذاب خبيث وقال البخاري:منكر الحديث

 وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي أَبُو شُرَحْبِيلَ الْحِمْصِيُّ عِيسَى بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي [عَمِّي] أَبُو الْيَمَانِ وَأَبُو الْمُغِيرَةِ قَالَا: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: كَتَبَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ: " إِنَّا حِينَ قَدِمْتَ بِلَادَنَا طَلَبْنَا إِلَيْكَ الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا عَلَى أَنَّا شَرَطْنَا لَكَ عَلَى أَنْفُسِنَا أَلَّا نُحْدِثَ فِي مَدِينَتِنَا كَنِيسَةً......وفي آخره.. فَكَتَبَ بِذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: " أَنْ أَمْضِ لَهُمْ مَا سَأَلُوا...، أحكام أهل الذمة (3 / 1159)

وعند ابن عساكر من إسحاق بن راهوية عن بشر بن الوليد عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم أن عمر كتب ....

تاريخ دمشق (2/174)و شروط النصارى لابن زبر الربعي (ص: 21)

إثبات أهل العلم للوثيقة

قال ابن تيمية:فَصْلٌ  

فِي شُرُوطِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّتِي شَرَطَهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ وشارطهم بِمَحْضَرِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي ؛ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ } لِأَنَّ هَذَا صَارَ إجْمَاعًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ عَلَى مَا نَقَلُوهُ وَفَهِمُوهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذِهِ الشُّرُوطُ مَرْوِيَّةٌ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَصَرَةٍ وَمَبْسُوطَةٍ.مجموع الفتاوى (28/  65(

 قال الإمام ابن كثير:

ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم، وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ، من رواية  عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري قال: كتبت لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين صالح نصارى من أهل الشام تفسير ابن كثير (4/  133)

 قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ساق الشروط العمرية بأسانيدها

وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجوا بها ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها.أحكام أهل الذمة (3/  164)

وقال أيضا:واحتج الفقهاء بالشروط العمرية وأوجبوا اتباعها هذا هو الصحيح.أحكام أهل الذمة (3/  1345 (

قال ابن العليمي الحنبلي:

 وَقد اعْتمد أَئِمَّة الْإِسْلَام هَذِه الشُّرُوط وَعمل بهَا الْخُلَفَاء الراشدون. الأنس الجليل (1 / 255)

 وقال ابن خلدون:

وعلى أحكام هذا الكتاب جرت فتاوى الفقهاء في أهل الذمّة نصا وقياسا. تاريخ ابن خلدون (5 / 477)

 

وقد ضعف الشيخ الألباني رحمه الله  هذا الحديث في إرواء الغليل حيث قال عقب الحديث : قلت : وإسناده ضعيف جدا من أجل يحيى بن عقبة فقد قال ابن معين : ليس بشئ . وفي رواية : كذاب خبيث عدو الله . وقال البخاري : منكر الحديث . وقال أبو حاتم : يفتعل الحديث .

 


 

 



[1] الإسلام والدستور (1 / 56- 58)  بتصرف

[2] التعريفات (ص: 139(المعجم الوسيط (1/  283(و كتاب الكليات ـ لأبى البقاء الكفومى (ص: 710(

[3] المعجم الوسيط(1/283)مع بعض الزيادات  

[4]الإسلام والدستور(1/34)

[5] الكامل في التاريخ (2 / 298) تاريخ الطبري (3 / 520)

[6] الإسلام والدستور(1/71و72) بتصرف

[7] .الإسلام والدستور (1/75)

[8] الإسلام والدستور(1/ 87 -88)

[9] الإسلام والدستور(96وما قبلها بتصرف)والنظام السياسي(1/14)

[10] النظام السياسي (1/7وما بعدها) والإسلام والدستور(97وما بعدها بتصرف)

[11] سيرة ابن هشام(5.1-5.3)وعيون الأثر (1/ 229)

[12] كتاب الأموال(1/219)

[13]  أول دستور أعلنه الإسلام، د. أكرم العمري، (ص 39 – 40)  

[14] السيرة النبوية دروس وعبر(1/560وما بعدها)والإسلام والدستور(1/126وما بعدها)

[15] فقه السيرة النبوية(ص: 152)

[16] معجم المناهي اللفظية (ص: 254)


يسمح بنقل الموضوع  شرط ذكر المصدر


عدد المشاهدات 7948