خطبة: من تصـاحب (سلسلة الواعظ عدد جمادى الأولى 1437هـ)

2016-02-23

اللجنة العلمية

من تصـاحب

من تصاحب

فضل الصحبة في الله شروط اختيار الصاحب.

حق الأخوة والصحبة لا صور من الأخوة في الإسلام.

فضل الصحبة في الله:

إن الاجتماع والألفة نعمة من الله عز وجل أنعم بها على عباده فرضى لهم التوافق والاجتماع والمحبة والألفة وكره لهم الفرقة والتنازع والاختلاف. قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [آل عمران: 103].

قال قتادة -رحمه الله-: قوله تعالى: {وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ }إنّ الله عز وجل قد كره لكم الفُرْقة، وقدّم إليكم فيها، وحذّركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمعَ والطاعة والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضى الله لكم إن استطعتم، ولا قوّة إلا بالله (1). وعَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ(2).

وإن من أفضل نعم الله على عبده أن ينعم عليه بأخ يعينه على طاعة الله ورضوانه.

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا، وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ. (3)

وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: ما أعطى عبد بعد الإسلام خيراً من أخ صالح، وقال أيضاً: إذا رأى أحدكم ودّاً من أخيه فليتمسك به، فقلما تصيب ذلك.

وقد قال بعض الحكماء في معناه كلاماً منظوماً شعراً:

ما نالت النفس على بغية. . . ألذّ من ودّ صديق أمين

مَنْ فاتَه ودّ أخ صالح. . . فذلك المقطوع منه الوتين (4).

وفي القرآن والسنة أدلة كثيرة تدل على عظم الأخوة وفضلها منها:

قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: 10]، أَيْ: فِي الدِّينِ وَالْحُرْمَةِ لَا فِي النَّسَبِ، وَلِهَذَا قِيلَ: أُخُوَّةُ الدِّينِ أَثْبَتُ مِنْ أُخُوَّةِ النَّسَبِ، فَإِنَّ أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وَأُخُوَّةَ الدِّينِ لَا تَنْقَطِعُ بِمُخَالَفَةِ النَّسَبِ(5).

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- { مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى}(6). فأنت إذا أحسست بألم في أطرف شيء من أعضائك، فإن هذا الألم يسري على جميع البدن، كذلك ينبغي أن تكون للمسلمين هكذا، إذا اشتكى أحد من المسلمين فكأنما الأمر يرجع إليك أنت(7). عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ-رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ)(8). وعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)(9). وقد رغب النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأخوة في الله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ-منهم- يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ(10).

شروط اختيار الصاحب:

قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28].

قال السعدي -رحمه الله-: في هذه الآية الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم، ومخالطتهم وإن كانوا فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد، ما لا يحصى(11).

وقال تعالى: { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]

قال القرطبي -رحمه الله-: قَوْلُهُ تَعَالَى: { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ} يُرِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. { بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أَيْ أَعْدَاءٌ، يُعَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} فَإِنَّهُمْ أَخِلَّاءٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ(12).

وقال ابن كثير -رحمه الله-: "كُلُّ صَدَاقَةٍ وَصَحَابَةٍ لِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدَاوَةً إِلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ دَائِمٌ بِدَوَامِهِ"(13). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ "(14).

ولله در القائل:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه. . فكل قرين بالمقارن يقتدي.

وذكر الماوردي بعض الْخِصَالُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الإخَاء وقال منها أَرْبَعُ خِصَالٍ:

الْخَصْلَةُ الْأُولَى: عَقْلٌ مَوْفُورٌ يَهْدِي إلَى مَرَاشِدِ الْأُمُورِ. فَإِنَّ الْحُمْقَ لَا تَثْبُتُ مَعَهُ مَوَدَّةٌ، وَلَا تَدُومُ لِصَاحِبِهِ اسْتِقَامَةٌ.

وَالْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ: الدِّينُ الْوَاقِفُ بِصَاحِبِهِ عَلَى الْخَيْرَاتِ، فَإِنَّ تَارِكَ الدِّينِ عَدُوٌّ لِنَفْسِهِ، فَكَيْفَ يُرْجَى مِنْهُ مَوَدَّةُ غَيْرِهِ.

وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مَحْمُودَ الْأَخْلَاقِ مَرَضِيَّ الْأَفْعَالِ، مُؤْثِرًا لِلْخَيْرِ آمِرًا بِهِ، كَارِهًا لِلشَّرِّ نَاهِيًا عَنْهُ. وَلَا خَيْرَ فِي مَوَدَّةٍ تَجْلِبُ عَدَاوَةً وَتُورِثُ مَذَمَّةً، فَإِنَّ الْمَتْبُوعَ تَابِعُ صَاحِبِهِ.

وَالْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَيْلٌ إلَى صَاحِبِهِ، وَرَغْبَةٌ فِي مُؤَاخَاتِهِ.

فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ فِي إنْسَانٍ وَجَبَ إخَاؤُهُ، وَتَعَيَّنَ اصْطِفَاؤُهُ. وَبِحَسَبِ وُفُورِهَا فِيهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَيْلُ إلَيْهِ وَالثِّقَةُ بِهِ. (15).

حق الأخوة والصحبة:

والأخوة في الله لا يرجى قبولها عند الله حتى تكون مجردة من أي نفع خاص أو مصلحة خاصة وإنما لابد أن تكون خالصة لله. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ "(16).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَجِدَ طَعْمَ الْإِيمَانِ، فَلْيُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "(17).

ومن حقوق الأُخوة والصحبة:

1- الحب في الله: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ)(18).

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ، عَلَى مَدْرَجَتِهِ، مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لاَ، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ(19). قال النووي -رحمه الله-: في هذا الحديث فضل المحبة في الله تعالى وأنها سبب لحب الله تعالى العبد(20).

2-الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات: ومن الإعانة بذل المال إلى أخيك المسلم ومعاونته على قضاء حوائجه ومشاركته في فرحه وحزنه وتنفيس عنه كرباته وإن كان صاحب دين تسد عنه دينه كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ(21). والحديث فيه فضل قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما تيسر من علم أو مال أو معاونة أو إشارة بمصلحة أو نصيحة وغير ذلك والتجاوز عنهم والمسامحة والإنظار للمعسر وحسن المعاملة، وأن من فعل ذلك فإن الله تعالى يتجاوز عنه بذلك ويغفر ذنبه كما قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } [الرحمن: 60](22).

3- النظر إلى محاسنهم والتغاضي عن عيوبهم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- "وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ"(23).

قال ابن المنذر-رحمه الله-: ويستحب لمن اطلع من أخيه المسلم على عورة أو زلة توجب حدا، أو تعزيرًا، أو يلحقه فى ذلك عيب أو عار أن يستره عليه؛ رجاء ثواب الله، ويجب لمن بلى بذلك أن يستتر بستر الله، فإن لم يفعل ذلك الذى أصاب الحد، وأبدى ذلك للإمام وأقر بالحد لم يكن آثمًا(24). فإذا رأى الرجل من أخيه سوءًا فليستر عليه ولينصحه سرًا فإن فعل ذلك فقد نصح لأخيه وإن لم يفعل ولم يرفق به فقد فضحه. قال الشَّافِعِيُّ-رحمه الله-: (مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ وَزَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ وَخَانَهُ)(25).

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها. . . كفى المرء نبلاً أن تعد معائبهْ

4-الدفاع عن إخوانه في غيابهم: عن جَابِرِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه-،: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنَ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنَ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ) (26).

وعَنْ عِمْرَانَ بن حُصين -رضي الله عنه-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " مَنْ نَصَرَ أَخَاهُ بِالْغَيْبِ وَهُوَ يَسْتَطِيعُ نَصْرَهُ، نَصَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ "(27).

قال الصنعاني -رحمه الله-: وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُسْتَمِعَ لِلْغِيبَةِ أَحَدُ الْمُغْتَابِينَ فَمَنْ حَضَرَهُ الْغِيبَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَحَدُ أُمُورٍ الرَّدُّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ وَلَوْ بِإِخْرَاجِ مَنْ اغْتَابَ إلَى حَدِيثٍ آخَرَ أَوْ الْقِيَامُ عَنْ مَوْقِفِ الْغِيبَةِ أَوْ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ أَوْ الْكَرَاهَةُ لِلْقَوْلِ وَقَدْ عَدَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ السُّكُوتَ كَبِيرَةً لِوُرُودِ هَذَا الْوَعِيدِ وَلِدُخُولِهِ فِي وَعِيدِ مَنْ لَمْ يُغَيِّرْ الْمُنْكَرَ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْمُغْتَابِينَ حُكْمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُغْتَابًا لُغَةً وَشَرْعًا(28).

وقال النووي -رحمه الله-: اعلم أنه ينبغي لمن سمع غِيبةَ مسلم أن يردّها ويزجرَ قائلَها، فإن لم ينزجرْ بالكلام زجرَه بيده، فإن لم يستطع باليدِ ولا باللسان، فارقَ ذلكَ المجلس، فإن سمعَ غِيبَةَ شيخه أو غيره ممّن له عليه حقّ، أو كانَ من أهل الفضل والصَّلاح، كان الاعتناءُ بما ذكرناه أكثر(29).

عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ-رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ القِيَامَةِ) (30).

من نواقض الأخوة:

1- سوء الظن: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [الحجرات: 12]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ )(31).

قال أَبُو حاتم -رحمه الله-: الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عَن عيوب الناس مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه فإن من اشتغل بعيوبه عَن عيوب غيره أراح بدنه ولم يتعب قلبه فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عَلَيْهِ مَا يرى مثله من أخيه وإن من اشتغل بعيوب الناس عَن عيوب نفسه عمى قلبه وتعب بدنه وتعذر عَلَيْهِ ترك عيوب نفسه وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم وأعجز منه من عابهم بما فيه من عاب الناس عابوه ولقد أحسن الذي يقول

إذا أنت عبت الناس عابوا وأكثروا. . . عليك وأبدوا منك مَا كان يسترُ(32)

2-السخرية والاحتقار والهمز واللمز والتنابز: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [الحجرات: 11]

يَنْهَى تَعَالَى عَنِ السُّخْرِيَةِ بِالنَّاسِ، وَهُوَ احْتِقَارُهُمْ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ، كَمَا ثَبَتَ

عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: (الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)(33)، وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ: احْتِقَارُهُمْ وَاسْتِصْغَارُهُمْ، وَهَذَا حَرَامٌ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمُحْتَقَرُ أَعْظَمَ قَدْرًا عِنْدَ اللَّهِ وَأَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ السَّاخِرِ مِنْهُ الْمُحْتَقِرِ لَهُ(34).

3-الحـــــــــســــــــــــــــد: والحسد من أعظم الأدواء التي تَنقُضُ الأخوة وتورث العداوة والبغضاء بين الناس، عادى إبليس آدم حقداً وحسداً وقتل قابيل هابيل أيضاً حسداً وبغضاً، قال تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [المائدة: 30]

حسد أخاه فقتله، دب إليه الحسد، وهو داء الأمم السابقة، والحسد يغلى في قلب الشخص، والحسود شخص سيئ الأدب مع الله؛ لأنَّه ينظر إلى نعمة الله على أخيه، فيتمنى لو زالت عنه، قال تعالى: " أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ " [النساء: 54]

قال القرطبي -رحمه الله-: وَالْحَسَدُ مَذْمُومٌ وَصَاحِبُهُ مَغْمُومٌ وَهُوَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا رَأَيْتُ ظَالِمًا أَشْبَهَ بِمَظْلُومٍ مِنْ حَاسِدٍ، نَفَسٌ دَائِمٌ، وَحُزْنٌ لَازِمٌ، وَعَبْرَةٌ لَا تَنْفَدُ. وَقَالَ عبد الله ابن مَسْعُودٍ: لَا تُعَادُوا نِعَمَ اللَّهِ. قِيلَ لَهُ: وَمَنْ يُعَادِي نِعَمَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ(35).

صور من الأخوة في الإسلام:

ومن أعظم صور الأخوة في الإسلام ما كان بين النبي-صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في قصة الهجرة.

وفيها قال أبو بكر -رضي الله عنه- { فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا الَّذِي أَرَدْنَا، فَسَأَلْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلاَمُ، قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، سَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ، فَقُلْتُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَهَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ فَحَلَبَ لِي كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِدَاوَةً عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ، فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَوَافَقْتُهُ قَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ}(36).

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، النَّاسَ وَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ ذَلِكَ العَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ)، قَالَ: فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ-رضي الله عنه-، فَعَجِبْنَا لِبُكَائِهِ: أَنْ يُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ عَبْدٍ خُيِّرَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هُوَ المُخَيَّرَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِي المَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابَ أَبِي بَكْرٍ)(37).

وهذا من أعظم الأمثلة على الوفاء في الصحبة والأخوة فقد بلغ من وفاء أبى بكر أنه كان يعلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مالم يعلمه غيره -رضي الله عنه-.

وهناك دروس نتعلمها مما حدث بعد هجرة المسلمين إلى المدينة عندما آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار فمثلاً:

عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ المَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ وَأُزَوِّجُكَ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ، فَمَا رَجَعَ حَتَّى اسْتَفْضَلَ أَقِطًا وَسَمْنًا(38).

---

(1) تفسير الطبري (7/ 74).

(2) أخرجه البخاري(481)، و مسلم (6677).

(3) سنن الترمذي ت بشار (4/ 178) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ

(4) قوت القلوب في معاملة المحبوب (2/ 360).

(5) تفسير القرطبي (16/ 322).

(6) أخرجه مسلم(6678).

(7) شرح رياض الصالحين (2/ 398)، للشيخ محمد بن صالح العثيمين ‘.

(8) أخرجه البخاري(6065)، ومسلم (6618).

(9) أخرجه البخاري (13).

(10) أخرجه البخاري (660). ومسلم (1031).

(11) تفسير السعدي (ص: 475).

(12) تفسير القرطبي (16/ 109).

(13) تفسير ابن كثير (7/ 237).

(14) أخرجه أحمد (8398)قال الألباني حَسَنٌ غَرِيبٌ وانظر مشكاة المصابيح (5019).

(15) أدب الدنيا والدين (ص: 167).

(16) أخرجه البخاري (16)، ومسلم (74).

(17) أخرجه أحمد(7967). قال الألباني ‘: وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات رجال الشيخين غير يحيى بن أبي سليم وهو أبو بلج الفزاري الواسطي، وهو صدوق ربما أخطأ كما قال الحافظ. وانظر الصحيحة (2300).

(18) مصنف ابن أبي شيبة (30443)، صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2539).

(19) أخرجه مسلم (6641).

(20) شرح النووي على مسلم (16/ 124).

(21) أخرجه مسلم (38).

(22) وانظر شرح النووي على مسلم (17/ 21)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم (5/ 229).

(23) أخرجه مسلم (38).

(24) شرح صحيح البخاري لابن بطال (6/ 572).

(25) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 140).

(26) أخرجه أبو داود (4884)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع(5690).

(27) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7234)، وقال الألباني ‘: ورجاله ثقات رجال الشيخين غير أن الحسن – وهو البصري - مدلس وقد عنعنه. وقد وجدت له شاهدا من حديث إسماعيل بن مسلم عن محمد بن المنكدر وأبي الزبير عن جابر مرفوعا. وانظر الصحيحة(1217).

(28) سبل السلام (2/ 692).

(29) الأذكار للنووي (ص: 343).

(30) أخرجه الترمذي (1931)، صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (6262).

(31) أخرجه البخاري (6064)، ومسلم (6628).

(32) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 125).

(33) أخرجه مسلم(147).

(34) تفسير ابن كثير (7/ 376).

(35) تفسير القرطبي (5/ 251).

(36) أخرجه البخاري (3652).

(37) أخرجه البخاري (3654).

(38) أخرجه البخاري (2049).

عدد المشاهدات 9367