الافتتاحية: رسالة من العز بن عبد السلام رحمه الله (سلسلة الواعظ عدد رجب 1437هـ)

2016-04-04

صبرى عبد المجيد

رسالة من العز بن عبد السلام رحمه الله

رسالة من العز بن عبد السلام رحمه الله

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على النبي المصطفى الخاتم، وبعد:

فهذه رسالة مرضية من الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله (ت 660 هـ) إلى الدعاة و طلبة العلم، والشباب المتطلع إلى التدين و الاستقامة، والشيوخ المقلدين.

من كتابه الحافل (القواعد الكبرى) ـ قواعد الأحكام:

وهو من جملة الكتب التي تمت قراءتها مع بعض طلبة العلم النشطاء و الحمد لله على إحسانه و توفيقه.

قال رحمه الله:

فما أحسن أحكام الشرع إذا أجريت على قواعدها (1) و ما أخرج عن قواعده بغير مقتض لإخراج(2) كان مخرجه حائدًا عن تصرف الإله و مقاصده.

والسعيد من نظر بنور بصيرته إلى المصالح التي وضعها الله في أرضه لعباده قبل ورود شرعه، فإذا عرف تلك المصالح و ميّز بين متساوياتها و راجحها و مرجوحها، ثم عرضها على الشرع بعد وروده، فإن كان الشرع موافقًا لها كان معقول المعنى، و ما ورد على خلافها كان تعبدًا (3) (4)

فما أفسد أحوال طلاب العلم إلا اعتقادهم في مقلديهم أن ما يقولونه بمثابة ما قاله الشرع، حتى يتعجبوا من المذهب الذي يخالف مذهبهم، مع كون مذهبهم بعيدًا عن الحق والصواب، ومن هداه الله علم أنهم بشر يصيبون و يخطئون(5) (6)

* وقال رحمه الله:

وَمِنْ الْعَجَبِ الْعَجِيبِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ الْمُقَلِّدِينَ(7) يَقِفُ أَحَدُهُمْ عَلَى ضَعْفِ مَأْخَذِ إمَامِهِ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ لِضَعْفِهِ مَدْفَعًا وَمَعَ هَذَا يُقَلِّدُهُ فِيهِ، وَيَتْرُكُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ لِمَذْهَبِهِ جُمُودًا عَلَى تَقْلِيدِ إمَامِهِ، بَلْ يَتَحَلَّلُ لِدَفْعِ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَتَأَوَّلُهُمَا بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ الْبَاطِلَةِ نِضَالًا عَنْ مُقَلِّدِهِ، وَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَجَالِسِ فَإِذَا ذُكِرَ لِأَحَدِهِمْ فِي خِلَافٍ مَا وَظَنَّ نَفْسَهُ عَلَيْهِ تَعَجَّبَ غَايَةَ التَّعَجُّبِ مِنْ اسْتِرْوَاحٍ إلَى دَلِيلٍ(8)، بَلْ لِمَا أَلِفَه مِنْ تَقْلِيدِ إمَامِهِ حَتَّى ظَنَّ أَنَّ الْحَقَّ مُنْحَصِرٌ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ أَوْلَى مِنْ تَعَجُّبِهِ مِنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ، فَالْبَحْثُ مَعَ هَؤُلَاءِ ضَائِعٌ مُفْضٍ إلَى التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ يُجْدِيهَا(9)، وَمَا رَأَيْت أَحَدًا رَجَعَ عَنْ مَذْهَبِ إمَامِهِ إذَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ فِي غَيْرِهِ بَلْ يَصِيرُ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِضَعْفِهِ وَبُعْدِهِ، فَالْأَوْلَى تَرْكُ الْبَحْثِ مَعَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إذَا عَجَزَ أَحَدُهُمْ عَنْ تَمْشِيَةِ مَذْهَبِ إمَامِهِ قَالَ لَعَلَّ إمَامِي وَقَفَ عَلَى دَلِيلٍ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ وَلَمْ أَهْتَدِ إلَيْهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ الْمِسْكِينُ أَنَّ هَذَا مُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ وَيَفْضُلُ لِخَصْمِهِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ وَالْبُرْهَانِ اللَّائِحِ(10)، فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَنْ أَعْمَى التَّقْلِيدُ بَصَرَهُ حَتَّى حَمَلَهُ عَلَى مِثْلِ مَا ذُكِرَ(11)، وَفَّقَنَا اللَّهُ لِاتِّبَاعِ الْحَقِّ أَيْنَ مَا كَانَ وَعَلَى لِسَانِ مَنْ ظَهَرَ(12)، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ مُنَاظَرَةِ السَّلَفِ وَمُشَاوَرَتِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ وَمُسَارَعَتِهِمْ إلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ(13) إذَا ظَهَرَ عَلَى لِسَانِ الْخَصْمِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَا نَاظَرْت أَحَدًا إلَّا قُلْت اللَّهُمَّ أَجْرِ الْحَقَّ عَلَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مَعِي اتَّبَعَنِي وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ اتَّبَعْته(14).

أسأل الله عز و جل التوفيق والسداد في القول و العمل، والحمد لله رب العالمين.

كتبه

صبري محمد عبد المجيد

---

(1) أحكام الشرع ترتكز على القرآن و صحيح السنة و الإجماع و الصحابة خلف رسول الله، والقياس بأصوله و ضوابطه هذا ما عليه أئمة الهدى سلفًا و خلفًا

(2) النص الصحيح ملزمًا، و الظاهر على ظاهره ما لم يأت صارف مثله أو أقوى منه، و ما أمر الشارع الحكيم بشيء إلا لمصلحة خالصة فيه أو راجحة، وما نهى عن شيء إلا لمفسدة خالصة فيه أو راجحة

(3) خلاصة: التفريق بين إعمال العقل و تحكيم العقل: فالأول مشروع إذا جرى على قواعد الشرع التي أشار إليها العز رحمه الله في مطلع كلامه، و الثاني: محظور و هو أصل عند المعتزلة و غيرهم فاحذره.

(4) القواعد الكبرى(1/276)ط دار القلم

(5) لا يجوز لطالب العلم أن يكون مقلدًا، و على ذلك السالفون الأخيار، والأربعة الكرام، و المحررون في مذاهبهم من الأصفياء الكبار

(6) المصدر نفسه (1/277)

(7) و هذا لا يجوز، و قد رأينا الأئمة المحررين المنصفين في ذلك، كابن عبد البر في المالكية، و ابن قدامة في الحنابلة، و النووي في الشافعية، ومن المتأخرين المنصفين في ذلك في كل المذاهب ابن تيمية و تلميذه ابن القيم، وابن حجر العسقلاني رحم الله الجميع بل رأينا كثيرًا من الأئمة المتخصصين في مذاهبهم كمن سبق ذكرهم يردون قول إمام المذهب المخالف للنص، وغالب مورد هذا في السنة، بل يردون قول الصحابي و من دونه المخالف لسنة رسول الله، و يعتذرون للمخالف الذي على طريق الهدى، بعدم بلوغه النص، أو بلغه من طريق لم يثبت، أو قال بخلافه ثم رجع عنه، و بهذا يُرفع الملام عنهم.

وأما عن التأويل بصرف النصوص عن منطوقها الصريح، و الظاهر بأدنى شبهة، أو برؤية نظرية، أو باللغة فقط، فهذا منبوذ غير مقبول، عند أهل التحقيق من السالفين الأخيار، فلا سبيل إلى الفهم السليم، و المطلب الشرعي الأصيل.

(8) إذا كان هذا في عصر العز بن عبد السلام، فكيف بعصرنا الذي كثر فيه الرويبضة؟

(9) فليحفظ هذا طالب العلم الراغب في القوة العلمية و فقه ما يطلبه، ولا يُشغل نفسه، ولا يُضيع وقته مع مثل هؤلاء.

(10) رحم الله العز بن عبد السلام، ماذا لو جالس و رأى و سمع دكاترة و مشائخ عصرنا؟

(11) هذا ذم صريح للتقليد

(12) هذا مدح لاتباع الدليل، والتحرر من التقليد

(13) الحق: قال الله تعالى و قال رسول الله، لا يُقدم على قول الله و رسوله قول أحد كائنًا ما كان

(14) رحم الله الشافعي و الثلاثة و غيرهم، فهم على طريق مستقيم واحد سواء

قاعدته: إذا صح الحديث فهو مذهبي.

لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه

حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي

إذا قلت قولًا يخالف كتاب الله، وخبر رسول الله فاتركوا قولي (فاضربوا بقولي عرض الحائط)

فهل يعقل هذا العصريون المغرضون المضيعون لهذا النقاء و الصفاء؟

فليعدوا الجواب عند الوقوف بين يدي الله العزيز الجبار

عدد المشاهدات 9590