الخطب : قبسات من مشكاة النبوة - دعاء جامع لسعادة الدارين (سلسلة الواعظ عدد ربيع الأول 1438هـ )

2016-11-30

اللجنة العلمية

قبسات من مشكاة النبوة

دعاءٌ جامعٌ لسعادة الدارين

قبسات من مشكاة النبوة

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ (( اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ )). (1)

المعاني والفوائد الجامعة

- هذا دعاء عظيم من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم-، فجمع خير الدنيا والآخرة، والدين والدنيا، فحقٌّ على كل سامع له أن يحفظه، ويدعو به آناء الليل وآناء النهار، لعل الإنسان يوافق ساعة إجابة، فيحصل على خيري الدنيا والآخرة.

- النظرة الشاملة الكاملة لدين الإسلام التي تجمع للعباد بين مصالح الدين والدنيا.

- التلازم والترابط الوثيق بين إصلاح الدين وإصلاح الدنيا وإصلاح الآخرة، فلا صلاح للدنيا بدون إصلاح الدين، ولا صلاح للدين بدون صلاح الدنيا، ولا صلاح للآخرة بدونهما.

- هذا الحديث وأمثاله من الأحاديث - التي جمعت للعباد بين مصالح الدين والدنيا - تعتبر غضة في حلوق الذين يتهمون الإسلام ويرمونه بكل نقيصة بأنه دين تخلف ورجعية وأنه دين قاصرٌ عن أن يوفي العباد حاجاتهم ومصالحهم فليرجعوا إلى صوابهم ولينصفوا دين الله من أنفسهم.

قوله: (اللَّهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري):

لنا مع هذه الجملة من الحديث ثلاث وقفات:

- الوقفة الأولى مع المعنى

معنى العصمة: المنع والحفظ، والعاصم المانع، يعني: اللهم احفظْ ديني عن الخَطَأِ والزَّلَل والرِّياء، وعما لا يليقُ ولا تُحِبُّه، فإنه عِمادُ أمري، فإن فَسَدَ دينهُ فَسَدَ جميعُ أموره وخابَ وخَسِر في الدنيا والآخرة. (2)

- ويقتضي هذا الطلب والالتجاء إلى الله أن يَسعى العبدُ في إصلاح دينه بمعرفة الحقِّ واتِّباعه، ومعرفة الباطل واجتنابه، ودفع فتن الشبهات والشهوات. (3)

- الوقفة الثانية: ما يترتب على صلاح دين العبد وفساده

إصلاح الدين أعظم المقاصد، وأهم المطالب؛ لأن من صلح دينه سعد في الدنيا وفي الآخرة، ومن فسد دينه فقد خاب وخسر الدنيا والآخرة، قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ } [النحل: 30] فبيَّن سبحانه أنه يُسعدُ المحسنَ بإحسانه في الدنيا وفى الآخرة، كما أخبر أنه يُشقى المسيءَ بإساءته في الدنيا والآخرة. (4) قال تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] أَيْ: خَالَفَ أَمْرِي، وَمَا أَنْزَلْتُهُ عَلَى رَسُولِي، أَعْرَضَ عَنْهُ وَتَنَاسَاهُ وَأَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ هُدَاهُ {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} أَيْ: فِي الدُّنْيَا، فَلَا طُمَأْنِينَةَ لَهُ، وَلَا انْشِرَاحَ لِصَدْرِهِ، بَلْ صَدْرُهُ ضَيِّقٌ حَرَج لِضَلَالِهِ، وَإِنْ تَنَعَّم ظَاهِرُهُ، وَلَبِسَ مَا شَاءَ وَأَكَلَ مَا شَاءَ، وَسَكَنَ حَيْثُ شَاءَ، فَإِنَّ قلبه فِي قَلَقٍ وَحَيْرَةٍ وَشَكٍّ، فَلَا يَزَالُ فِي رِيبَةٍ يَتَرَدَّدُ. فَهَذَا مِنْ ضَنْكِ الْمَعِيشَةِ. (5)

وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعِزَّ قَرِينَ طَاعَتِهِ، وَالذُّلَّ قَرِينَ مَعْصِيَتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ: 8].

وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تعمّد مخالفة أمره سبب في الذل والصغار، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( َجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي )). (6)

ويؤكد هذا المعنى ما جاء في تفسير قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}. [الأعراف: 152]

وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ -رحمه الله-: مَا مِنْ مُبْتَدِعٍ إِلَّا وَتَجِدُ فَوْقَ رَأْسِهِ ذِلَّةٌ.

وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ -رحمه الله-: كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ ذَلِيلٌ. (7)

قال ابن تيمية -رحمه الله-: فالعاصي يناله من الذلة والكبت بحسب معصيته. (8)

وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ بَعْضِ السَّلَفِ: اللَّهُمَّ أَعِزَّنِي بِطَاعَتِكَ وَلَا تُذِلَّنِي بِمَعْصِيَتِكَ.

وقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّهُمْ - يعنى العصاة- وَإِنْ طَقْطَقَتْ بِهِمُ الْبِغَالُ، وَهَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبَرَاذِينُ، إِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفَارِقُ قُلُوبَهُمْ، أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ:

رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ. . . وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا

وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ. . . وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا

وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ. . . وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا(9)

- الوقفة الثالثة: بمَ يكون إصلاح الدين؟

1- بإصلاح القلب

فإذا أصلح العبدُ قلبَه أَمِنَ مِن النفاق والرياء والعجب والكبر. . . . وكل هذه الأمراض وأمثالها من أمراض القلب تقدح في دين العبد وإيمانه إما بالسلب وإما بالنقص فلزم إصلاح القلب أولا ليسلم للعبد دينُه وإيمانه، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رضي الله عنهما- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ وفيه: ((. . . . أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ )). (10)

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( لاَ يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ )). (11)

2 بالإخلاص لله تعالى والمتابعة لرسوله -صلى الله عليه وسلم- في أي عمل يعمله العبد

فإن التمسك بهذين الأصلين عصمة للعبد من الشرور كلها، أسبابها، ونتائجها ونهاياتها، ومن مضلات الفتن، والمحن، والضلالات التي تضيّع الدين والدنيا. (12)

قال ابن القيم -رحمه الله- في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103]

وَهَذَا حَالُ أَرْبَابِ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-(13)

قال بعض السلف: ما مِن فعلةٍ وإن صغُرت إلا ينشر لها ديوانان: لمَ؟ وكيف؟ أي لمَ فعلتَ؟ وكيف فعلت؟. فالأول سؤال عن الإخلاص، والثاني عن المتابعة، فإن الله سبحانه لا يقبل عملا إلا بهما، فطريق التخلص من السؤال الأول: بتجريد الإخلاص، وطريق التخلص من السؤال الثاني: بتحقيق المتابعة. (14)

فالله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ )). (15)

وأن يكون مقتديا في عمله بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، فعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ )).(16)ولمسلم ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ )). (17)

قوله: (و أصلح لي دنياي التي فيها معاشي)

أي أصلح لي عيشي في هذه الدار الفانية القصيرة، بأن أُعْطَى الكفاف والصلاح، فيما أحتاج إليه، وأن يكون حلالاً مُعيناً على طاعتك، وعبادتك على الوجه الذي ترضاه عني، وأسألك صلاح الأهل، من الزوجة الصالحة، والذرية والمسكن الهنيء، والحياة الآمنة الطيبة ومنشأ ذلك كله أن يصلح العبد ما بينه وبين ربه تبارك وتعالى باجتناب السيئات وعمل الصالحات. (18)قال جلّ شأنه: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]

قوله: { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً }: أي في الدنيا بالقناعة، وراحة البال، والرزق الحلال والتوفيق لصالح الأعمال. (19) وَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَشْمَلُ وُجُوهَ الرَّاحَةِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ. (20)

- أسس وقواعد إصلاح الدنيا

ذكر الماوردي عدة أَشْيَاءَ هِيَ قَوَاعِدُ وأسس إصلاح الدنيا من أهمها: دِينٌ مُتَّبَعٌ وَسُلْطَانٌ قَاهِرٌ وَعَدْلٌ شَامِلٌ وَأَمْنٌ عَامٌّ. (21)

- الدين هو الأساس الأول والأعظم في إصلاح الدنيا

قال الماوردي -رحمه الله-: الدِّينَ أَقْوَى قَاعِدَةٍ فِي صَلَاحِ الدُّنْيَا وَاسْتِقَامَتِهَا، وَأَجْدَى الْأُمُورَ نَفْعًا فِي انْتِظَامِهَا وَسَلَامَتِهَا. (22)عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: (( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ )). (23)

وعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ -رضي الله عنه-، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: ((طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ إِلَى الإِسْلَامِ، وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنَعَ )). (24)

- الأساس الثاني السلطان

قال ابن جماعة -رحمه الله-: الْخلقُ لَا تصلح أَحْوَالهم إِلَّا بسُلْطَان يقوم بسياستهم، ويتجرد لحراستهم.(25)

وكَمَا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عفان -رضي الله عنه-: إنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ. (26)

قال ابن تيمية -رحمه الله-: يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ وِلَايَةَ أَمْرِ النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الدِّينِ؛ بَلْ لَا قِيَامَ لِلدِّينِ وَلَا لِلدُّنْيَا إلَّا بِهَا. فَإِنَّ بَنِي آدَمَ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ إلَّا بِالِاجْتِمَاعِ لِحَاجَةِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ وَلَا بُدَّ لَهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مِنْ رَأْسٍ. (27)

فالدين والسلطان متلازمان لا قيام لأحدهما بدون الآخر، فإِنْ انْفَرَدَ السُّلْطَانُ عَنْ الدِّينِ أَوْ الدِّينُ عَنْ السُّلْطَانِ فَسَدَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ. (28)

- الأساس الثالث العدل

فالعَدْل الشَامِل يَدْعُو إلَى الْأُلْفَةِ، وَيَبْعَثُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَتَتَعَمَّرُ بِهِ الْبِلَادُ، وَتَنْمُو بِهِ الْأَمْوَالُ، وَيَكْثُرُ مَعَهُ النَّسْلُ، وَيَأْمَنُ بِهِ السُّلْطَانُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَسْرَعُ فِي خَرَابِ الْأَرْضِ وَلَا أَفْسَدُ لِضَمَائِرِ الْخَلْقِ مِنْ الْجَوْرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَقِفُ عَلَى حَدٍّ وَلَا يَنْتَهِي إلَى غَايَةٍ. (29)

- الأساس الرابع الأمن

فالأمن تَطْمَئِنَّ إلَيْهِ النُّفُوسُ وَتَنْتَشِرُ فِيهِ الْهِمَمُ، وَيَسْكُنُ إلَيْهِ الْبَرِيءُ، وَيَأْنِسُ بِهِ الضَّعِيفُ. فَلَيْسَ لِخَائِفٍ رَاحَةٌ، وَلَا لِحَاذِرٍ طُمَأْنِينَةٌ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْأَمْنُ أَهْنَأُ عَيْشٍ، وَالْعَدْلُ أَقْوَى جَيْشٍ؛ لِأَنَّ الْخَوْفَ يَقْبِضُ النَّاسَ عَنْ مَصَالِحِهِمْ، وَيَحْجِزُهُمْ عَنْ تَصَرُّفِهِمْ. (30)

- تعمير الأرض وبناء حضارة للأمة من مقاصد الشريعة الإسلامية

فدين الإسلام دين اعتقاد وعبادة وحضارة، وخير شاهد على ذلك تاريخ السلف وواقعهم، وأما التفريق بين شؤون الدّنيا وشؤون الآخِرة هو سببَ التّخلّف الذي أزرى بأمّتنا وأقعدها عن نشرِ رسالتِها، حين فهِم أقوامٌ مِن ذمّ الدّنيا إهمالَ الحياة الدّنيا وتركَ عمارتها والهروبَ عن إصلاحها وتنميتها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأوجدَ فيهم ذلك سلبيةً مقيتة وانهزاميّة وضعفًا وخوَرًا يأباه الدّين، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [البقرة: 201]

الحسنة في الدّنيا تشمَل كلَّ مطلوبٍ دنيويّ من عافية ودارٍ رحبة ورزق واسع وعلمٍ نافع وعمل صالح ومركَب حسنٍ وثناءٍ جميل، والحسنة في الآخرة أعلاها دخولُ الجنّة وتوابعُه من الأمنِ من الفزع الأكبر وتيسير الحساب.

والصّحابة -رضي الله عنهم- هم القدوة والنموذجُ في فهم الإسلام، يأخذون بالأسبابِ في الكسب من تجارةٍ وزراعة، ويطلبون العلمَ ويبذلون في سبيل ذلك أوقاتهم ونفوسَهم وأموالهم، فيهم الأغنياءُ دون بطرٍ والفقراء مع التعفُّف، ومع هذا كانوا أبعدَ النّاس عن التهالك على الدنيا، فتَحوا البلدان، وأنشأوا المدُن، وأقاموا الدّولَ، ونشروا الإسلام. (31)

- هل الدنيا مذمومة لذاتها؟ وكيف نجمع بين عمارتها والزهد فيها؟

ليس ذم الدنيا راجعاً إلى مكان الدنيا وهو الأرض، وما أودع فيها من جبال وبحار وأنهار ومعادن، فإن ذلك كله من نعم الله على عباده، لما لهم فيها من المنافع، والاعتبار، الاستدلال على وحدانية الصانع سبحانه، وقدرته وعظمته، وإنما الذم راجع إلى أفعال بنى آدم الواقعة في الدنيا، لأن غالبها واقع على غير الوجه الذى تحمد عاقبته. (32)

يَعِيبُ النَّاسُ كُلُّهُمُ الزَّمَانَا. . . وَمَا لِزَمَانِنَا عَيْبٌ سِوَانَا

نَعِيبُ زَمَانَنَا وَالْعَيْبُ فِينَا. . . فَلَوْ نَطَقَ الزَّمَانُ بِهِ رَمَانَا (33)

سُئِلَ أَبُو صَفْوَانَ الرُّعَيْنِيُّ: مَا هِيَ الدُّنْيَا الَّتِي ذَمَّهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَجَنَّبَهَا؟ فَقَالَ: كُلُّ مَا أَصَبْتَ فِي الدُّنْيَا تُرِيدُ بِهِ الدُّنْيَا، فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَكُلُّ مَا أَصَبْتَ فِيهَا تُرِيدُ بِهِ الْآخِرَةَ، فَلَيْسَ مِنْهَا.

وَقَالَ الْحَسَنُ -رحمه الله-: نِعْمَتُ الدَّارُ كَانَتِ الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَمِلَ قَلِيلًا، وَأَخَذَ زَادَهُ مِنْهَا إِلَى الْجَنَّةِ، وَبِئْسَتِ الدَّارُ كَانَتْ لِلْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ضَيَّعَ لَيَالِيَهُ، وَكَانَ زَادُهُ مِنْهَا إِلَى النَّارِ.(34)

الدّنيا في المفهوم الإسلاميّ وسيلة وذريعةٌ لتحصيل مقاصدِ الشريعة ومطيّة للآخرة، فإنّها إذا فسدت فربّما أدّى فسادُها إلى إيقاف الدّين، قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]

والآثار الواردة في ذم الدنيا في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- إذا كانت تشغل العبد عن طاعة الله مما يكون قبل الموت، وعلى هذا فإن الأموال والأولاد والمناصب إذا استعان بها صاحبها على طاعة الله فليست مذمومة، وإذا شغلت عن طاعة الله أو أدت إلى معصيته فهي مذمومة.

قَالَ الْحَافِظ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رحمه الله-: وَاعْلَمْ أَنَّ خَلْقًا كَثِيرًا سَمِعُوا ذَمَّ الدُّنْيَا وَلَمْ يَفْهَمُوا الْمَذْمُومَ، وَظَنُّوا أَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي خُلِقَتْ لِلْمَنَافِعِ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ فَأَعْرَضُوا عَمَّا يُصْلِحهُمْ مِنْهَا فَتَجَفَّفُوا فَهَلَكُوا.

قال الماوردي -رحمه الله-: لابد للإنْسَان أَنْ يَصْرِفَ إلَى دُنْيَاهُ حَظًّا مِنْ عِنَايَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا غِنَى بِهِ عَنْ التَّزَوُّدِ مِنْهَا لِآخِرَتِهِ، وَلَا لَهُ بُدٌّ مِنْ سَدِّ الْخَلَّةِ فِيهَا عِنْدَ حَاجَتِهِ. (35)

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ -رحمه الله-: مَتَاعُ الْغُرُورِ مَا يُلْهِيكَ عَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ، وَمَا لَمْ يُلْهِكَ، فَلَيْسَ بِمَتَاعِ الْغُرُورِ وَلَكِنَّهُ مَتَاعُ بِلَاغٍ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ.

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ -رحمه الله-: كَيْفَ لَا أُحِبُّ دُنْيَا قُدِّرَ لِي فِيهَا قُوتٌ أَكْتَسِبُ بِهَا حَيَاةً أُدْرِكُ بِهَا طَاعَةً أَنَالُ بِهَا الْآخِرَةَ.

وقال سفيان بن عيينة: ليس من حب الدنيا طلبك ما لا بد منه. (36)

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَإِذْ قَدْ عَرَفْت الْمَذْمُومَ مِنْ الدُّنْيَا فَكُنْ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا تَأْخُذْ فَوْقَ مَا يُصْلِحُك، وَلَا تَمْنَعْ نَفْسَك حَظَّهَا الَّذِي يُقِيمُهَا. كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ: إذَا وَجَدْنَا أَكَلْنَا أَكْلَ الرِّجَالِ، وَإِذَا فَقَدْنَا صَبْرَنَا صَبْرَ الرِّجَالِ. (37)

قوله: (وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي)

أي وفّقني للعمل الصالح الذي يرضيك عني، وملازمة طاعتك، والتوفيق إلى حسن الخاتمة حتى رجوعي إليك يوم القيامة، فأفوز بالجنان، قال اللَّه تعالى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هود: 104] لم يقل تعالى ممدود، بل قال: ( مَعْدُودٍ ) أي يُعدّ عدّاً إلى هذا اليوم العظيم، فينبغي لنا أن نعدّ العُدّة لهذا اليوم. (38)

وسؤال العبد ربه صلاح آخرته يشتمل على ثلاثة أركان:

- التوفيق لفعل الطاعات والتسديد في فعلها

- والمداومة على ذلك حتى يلاقاه

- والتوفيق لحسن الخاتمة

قوله: (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير):

أي اجعل يا اللَّه الحياة سبباً في زيادة كل خير يرضيك عني من العبادة والطاعة، ويُفهم من ذلك أن طول عمر المسلم زيادة في الأعمال الصالحة الرافعة للدرجات العالية في الدار الآخرة، كما سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: (( مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ )). (39)

قوله: (و اجعل الموت راحة لي من كل شر )

أي اجعل الموت راحة لي من كل هموم الدنيا وغمومها من الفتن والمحن، والابتلاءات بالمعصية والغفلة، ويُفهم من ذلك أن المؤمن يستريح غاية الراحة، ويسلم السلامة الكاملة عند خروجه من هذه الدار، كما في حديث أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: (( مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ )) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا المُسْتَرِيحُ وَالمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: (( العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ العِبَادُ وَالبِلاَدُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ )). (40)

وقيل للإمام أحمد -رحمه الله-: متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال: عند أول قدم يضعها في الجنة. (41)

قال ابن القيم -رحمه الله-: ليس للعابدين مستراحٌ إلا تحتَ شجرة طوبى، ولا للمحبين قرارٌ إلا يوم المزيد، فمثلْ لقلبك الاستراحةَ تحت شجرة طوبى يَهنْ عليك النصب، واستحضر يوم المزيد يهن عليك ما تتحمل من أجله. (42)

وفيه دلالة على أنه يجوز الدعاء بالموت إذا خاف على نفسه الفتنة. (43)

---

(1) رواه مسلم (2720)

(2) المفاتيح في شرح المصابيح للمظهري الحنفي (3/ 243) والتنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (3/ 152)

(3) فقه الأدعية والأذكار لعبد الرزاق البدر (2/ 153)

(4) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 23)

(5) تفسير ابن كثير (5/ 322)

(6) رواه أحمد (2/ 50) وحسنه الألباني بشواهده، ونقل تقوية العراقي وابن تيمية وابن حجر للحديث في: جلباب المرأة المسلمة (ص: 204)

(7) تفسير ابن كثير (3/ 478) تفسير القرطبي (7/ 292) مجموع الفتاوى (13/ 196)

(8) الصارم المسلول (ص: 30)

(9) الداء والدواء (ص: 59)

(10) رواه البخاري (52) ومسلم (1599)

(11) رواه أحمد (3/ 198) وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 822)

(12) شرح الدعاء من الكتاب والسنة (ص: 309)

(13) اجتماع الجيوش الإسلامية (2/ 89)

(14) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 8)

(15) رواه مسلم (2985)

(16) رواه البخاري (2697) ومسلم (1718)

(17) رواه مسلم (1718)

(18) شرح الدعاء من الكتاب والسنة لماهر بن مقدم (ص: 310)

(19) شرح الدعاء من الكتاب والسنة (ص: 310)

(20) تفسير ابن كثير (4/ 601)

(21) أدب الدنيا والدين (ص: 133)

(22) أدب الدنيا والدين (ص: 133)

(23) رواه مسلم (1054)

(24) رواه الترمذي (2349) وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 11)

(25) تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام لابن جماعة(ص: 48)

(26) مجموع الفتاوى (11/ 416)

(27) مجموع الفتاوى (28/ 390)

(28) مجموع الفتاوى (28/ 394)

(29) أدب الدنيا والدين (ص: 139)

(30) أدب الدنيا والدين (ص: 142)

(31) فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب لمحمد عويضة (9/ 272)

(32) فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب (9/ 272)

(33) الزهد الكبير للبيهقي (ص: 124)

(34) جامع العلوم والحكم (2/ 193)

(35) أدب الدنيا والدين (ص: 131)

(36) صفة الصفوة (1/ 425) و تلبيس إبليس (ص: 163)

(37) غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (2/ 548)

(38) شرح الدعاء من الكتاب والسنة (ص: 310)

(39) رواه أحمد (4/ 188) والترمذي (2329) من حديث عبد الله بن بسر -رضي الله عنه- وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 624)

(40) رواه البخاري (6512) ومسلم (950)

(41) طبقات الحنابلة (1/ 293)

(42) بدائع الفوائد (3/ 218)

(43) البدر التمام شرح بلوغ المرام للمغربي (10/ 477)

عدد المشاهدات 9487