الخطب : منزلة الشكر (سلسلة الواعظ عدد ربيع الآخر 1438هـ )

2017-01-01

اللجنة العلمية

مــنـــزلــــــة الشــــــــــــــكـر

منزلة الشكر

معنى الشكر

منزلة الشكر

نِعَمٌ يَغْفَلُ عنها الكثير

الأسباب المعينة على الشكر

ثمرات الشكر

مقدمة:

منذ أن استهل المرء صارخًا من بطن أمه وهو في نعم الله يتقلب صباحًا ومساءً، فلا تمر عليه لحظة من اللحظات إلا ولله عليه فيها نعمة من النعم التي تستلزم الشكر عليها.

قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ } [لقمان: 20]

فقد امتنَّ سبحانه على الناس بنعم كثيرة من شمس وقمر ونجم وسحاب ودابة وشجر وماء وبحر وفلك، وغير ذلك من المنافع، التي تجري كلها لمنافعهم ومصالحهم، ولغذائهم وأقواتهم وأرزاقهم وملاذّهم، يتمتعون ببعض ذلك كله، وينتفعون بجميعه، ثم مع هذا كله ما آمن الناس كلهم، بل منهم من يجادل في الله، أي: في توحيده وإرسال الرسل. ومجادلته في ذلك بغير علم، ولا مستند من حجة صحيحة، ولا كتاب مأثور صحيح(1). بل إن الكثير من الناس -إلا من رحم ربك-من يقابل كل هذه النعم بالكفر والجحود والنكران، والنعمة إن لم تقابل بالشكر قُلِبَتْ نقمةً على أصحابها.

معنى الشكر:

قال ابن منظور: "الشُّكر، عرفان الإحسان ونشره"(2).

وقال الكفويّ: "أصل الشُّكر: تصوّر النّعمة وإظهارها، والشُّكر من العبد: عرفان الإحسان، ومن الله المجازاة والثّناء الجميل"(3).

وقال المُنَاويّ: "الشُّكر: شكران: الأوّل شكر باللّسان وهو الثّناء على المنعم، والآخر: شكر بجميع الجوارح، وهو مكافأة النّعمة بقدر الاستحقاق، والشّكور الباذل وسعه في أداء الشّكر بقلبه ولسانه وجوارحه اعتقادا واعترافا"(4).

وقال ابن القيّم: "الشُّكر ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناء واعترافا، وعلى قلبه شهودًا ومحبّة، وعلى جوارحه انقيادا وطاعة، وقيل: هو الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع"(5).

منزلة الشكر:

لقد بلغ من عِظَمِ منزلة الشكر أن الله سبحانه وتعالى سَمَّى نَفْسَهُ شَاكِرًا وَشَكُورًا وَسَمَّى الشَّاكِرِينَ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ. فَأَعْطَاهُمْ مِنْ وَصْفِهِ. وَسَمَّاهُمْ بِاسْمِهِ. وَحَسْبُكَ بِهَذَا مَحَبَّةً لِلشَّاكِرِينَ وَفَضْلًا(6). كما أثنى سبحانه في كتابه على عباده الشاكرين، وممن أثنى عليهم ربنا تبارك وتعالى الأنبياء، فمثلًا أثنى على أول رسول بعثه بالشكر فقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]، كما أثنى على خليله إبراهيم بشكره نعمه فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [النحل: 120، 121]

ومن الأدلة على عِظَمِ مَنزلةِ الشُكر:

1-أنه أحدُ قواعد الدين:

قال ابن القيم: "مبْنى الدّين على قاعدتين الذّكر وَالشُّكْر، قَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]"(7).

2-أن الله سبحانه قرنه بالإيمان:

قال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147]

فقرن سبحانه الشكر بالإيمان وأخبر أنه لا غرض له في عذاب خلقه إن شكروا وآمنوا به(8).

3-أنه مطلبُ الربِّ من عَبدِه:

قال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]

وقال: {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114]

قال السعدي: "قوله {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي: فاشكروه، فدل على أن من لم يشكر الله، لم يعبده وحده، كما أن من شكره، فقد عبده، وأتى بما أمر به"(9).

4-أن الله تعالى جعل الشكر هو الغاية من خلقه وأمره:

قال سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل: 78]. لما بين سبحانه لعباده عظيم منته ونعمته عليهم ختم الآية بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: رجاء لحصول شكركم، وأن الله سبحانه إنما خلق هذه الآلات لكم لتقوموا بحق الله فيها من الشكر، وهذا كقوله سبحانه: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}، وشكر الله على هذه النعم وغيرها من النعم إنما يكون باستعمالها في طاعته سبحانه، وما يقرب إلى مرضاته(10).

5-أن الشاكرين قِلة في العالمين:

قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]

وفيه حث على الاهتمام بالعمل الصالح، وإذ كان العمل شكرًا أفاد أن العاملين قليل(11).

والشُّكْرَ حَقِيقَتُهُ الِاعْتِرَافُ بِالنِّعْمَةِ لِلْمُنْعِمِ وَاسْتِعْمَالُهَا فِي طَاعَتِهِ، وَالْكُفْرَانُ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَعْصِيَةِ. وَقَلِيلٌ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْخَيْرَ أَقَلُّ مِنَ الشَّرِّ، وَالطَّاعَةُ أَقَلُّ مِنَ الْمَعْصِيَةِ(12).

لذا كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ، أَوْ تَنْتَفِخَ قَدَمَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَقُولُ: ((أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا))(13).

6-الشكر يرضاه ربنا تبارك وتعالى:

قال سبحانه: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]

وإنما رَضِيَ لهم سبحانه الشكر لأنه سبب سعادتهم في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]، فَالشُّكْرُ مَعَهُ الْمَزِيدُ أَبَدًا، فَمَتَى لَمْ تَرَ حَالَكَ فِي مَزِيدٍ. فَاسْتَقْبِلِ الشُّكْرَ(14). ولله در القائل:

ومن كان ذا شُكرٍ فأهلُ زيادةٍ وأهلٌ لبذلِ العُرْفِ من كان ينعم(15)

نِعَمٌ يَغْفَلُ عنها الكثير:

إنَّ الله تعالى قد أنعمَ على عباده بنعم لاتعد ولا تحصى كما قال: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، وطلب منهمُ الشُّكرَ، ورضي به منهم، قَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: " إِنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَى الْعِبَادِ عَلَى قَدْرِهِ، وَكَلَّفَهُمُ الشُّكْرَ عَلَى قَدْرِهِمْ حَتَّى رَضِيَ مِنْهُمْ مِنَ الشُّكْرِ بِالِاعْتِرَافِ بِقُلُوبِهِمْ بِنِعَمِهِ، وَبِالْحَمْدِ بِأَلْسِنَتِهِمْ عَلَيْهَا"(16).

وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "يُعدِدُ تعالى نعمَه على خلقِه، بأن خلق لهم السماوات سقفا محفوظًا والأرض فراشًا، وأنزل من السماء ماء فأخرج به أزواجًا من نبات شتى، ما بين ثمار وزروع، مختلفة الألوان والأشكال، والطعوم والروائح والمنافع، وسخر الفلك بأن جعلها طافية على تيار ماء البحر، تجري عليه بأمر الله تعالى، وسخر البحر يحملها ليقطع المسافرون بها من إقليم إلى إقليم آخر، لجلب ما هنا إلى هناك، وما هناك إلى هاهنا، وسخر الأنهار تشق الأرض من قطر إلى قطر، رزقا للعباد من شرب وسقي وغير ذلك من أنواع المنافع"(17).

ومعنى ((إن تعدوا)): أي: وإن تتعرضوا لتعداد نعم الله التي أنعم بها عليكم إجمالا فضلا عن التفصيل لا تطيقوا إحصاءها بوجه من الوجوه، ولا تقوموا بحصرها على حال من الأحوال وذلك مثل النعم المعتاد بها التي ينسى الناس أنها من النعم، كنعمة التنفس، ونعمة الحواس، ونعمة هضم الطعام(18).

وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ فَشَكَى إِلَيْهِ ضِيقًا مِنْ حَالِهِ وَمَعَاشِهِ، وَاغْتِمَامًا مِنْهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ يُونُسُ: أَيَسُرُّكَ بِبَصَرِكَ هَذَا الَّذِي تُبْصِرُ بِهِ مِائَةُ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَسَمْعُكَ الَّذِي تَسْمَعُ بِهِ يَسُرُّكَ بِهِ مِائَةُ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَلِسَانُكَ الَّذِي تَنْطِقُ بِهِ مِائَةُ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَفُؤَادُكَ الَّذِي تَعْقِلُ بِهِ مِائَةُ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَيَدَاكَ يَسُرُّكَ بِهِمَا مِائَةُ أَلْفٍ؟

قَالَ: لَا؟ قَالَ: فَرِجْلَاكَ؟ قَالَ: فَذَكَّرَهُ نِعَمَ اللهِ عَلَيْهِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ يُونُسُ، قَالَ: أَرَى لَكَ مِئِينَ أُلُوفًا، وَأَنْتَ تَشْكُو الْحَاجَةَ(19).

وعَنِ ابْنِ السَّمَّاكِ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ، فَقَالَ لَهُ: عِظْنِي. فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَوْ مُنِعَ عَنْكَ الْمَاءُ سَاعَةً وَاحِدَةً كُنْتَ تفتديها بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَوْ مُنِعَ عَنْكَ الْبَوْلُ سَاعَةً وَاحِدَةً كنت تفتديها بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَمَا تَصْنَعُ بِدُنْيَا لَا تَشْتَرِي بَوْلةً وَلَا شَرْبَةَ مَاءٍ؟ (20).

فنعم الله على عباده كثيرة قَلَّ أن تعد أو تحصى، وقَلَّ من يشكرها كما قال سبحانه: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [سبأ: 13]

وقال: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } [الأعراف: 10]

وقال جلَّ شأنه: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23]

فليحذرِ الغافلون عن شكر نعم الله من سؤاله يوم القيامة، ففي الحديث: (( أنَّ اللهَ عزَّ وَجَلَّ يَلْقَى الْعَبْدَ يوم القيامة، فَيَقُولُ: أَيْ فُلْ(21) أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاَقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لاَ، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِيَ فَيَقُولُ: أَيْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ، وَتَرْبَعُ، فَيَقُولُ: بَلَى، أَيْ رَبِّ فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاَقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لاَ، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ، فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ آمَنْتُ بِكَ، وَبِكِتَابِكَ، وَبِرُسُلِكَ، وَصَلَّيْتُ، وَصُمْتُ، وَتَصَدَّقْتُ، وَيُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ، فَيَقُولُ: هَاهُنَا إِذًا))(22).

وفي رواية أخري: يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: " يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ حَمَلْتُكَ عَلَى الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ، وَزَوَّجْتُكَ النِّسَاءَ، وَجَعَلْتُكَ تَرْبَعُ، وَتَرْأَسُ، فَأَيْنَ شُكْرُ ذَلِكَ؟ (23).

فمن عجز عن شكر نعم الله فعليه أن يسارع بالتوبة إلي الله تعالى، كما قال طَلْقُ بْنِ حَبِيبٍ: "إنَّ حُقُوقَ اللهِ أَثْقَلُ مِنْ أَنْ يَقُومَ بِهَا الْعِبَادُ، وَإِنَّ نِعَمَ اللهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهَا الْعِبَادُ، وَلَكِنْ أَصْبِحُوا تَوَّابِينَ وَأَمْسُوا تَوَّابِينَ"(24).

الأسباب المعينة على الشكر:

وَالشُّكْرُ مَبْنِيٌ عَلَى خَمْسِ قَوَاعِدَ: خُضُوعُ الشَّاكِرِ لِلْمَشْكُورِ. وَحُبُّهُ لَهُ. وَاعْتِرَافُهُ بِنِعْمَتِهِ. وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بِهَا. وَأَن ْلَا يَسْتَعْمِلَهَا فِيمَا يَكْرَهُ. فَهَذِهِ الْخَمْسُ: هِيَ أَسَاسُ الشُّكْرِ. وَبِنَاؤُهُ عَلَيْهَا. فَمَتَى عُدِمَ مِنْهَا وَاحِدَةً: اخْتَلَّ مِنْ قَوَاعِدِ الشُّكْرِ قَاعِدَةٌ(25).

ومن الأسباب التي تعين على شكر النعم:

الاعترافُ بنعم الله وذِكرُها وأنها من فضل الله ومنِّه وكرمه. قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: "تَذَاكَرُوا النِّعَمَ؛ فَإِنَّ مَنْ ذَكَرَهَا شَكَرَهَا"(26).

الإكثار من العبادات والعمل الصالح، شكرًا وحمدًا لله على ما أنعم.

كثرة الدعاء وطلب العون من الله على شكره وحسن عبادته.

أن يتفكر العبد في عِظَمِ سؤال الله عن هذه النعم يوم القيامة كما قال عز وجل: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] قال ابن عباس-رضي الله عنه-: "النعيم: صحة الأبدان والأسماع والأبصار، وقال: يسأل الله العباد فيم استعملوها"(27).

الإقلاع عن الذنوب والمعاصي فإنها تزيل النعم وتنزل النقم.

النظر إلى من هو أقل منه في شئون الدنيا فإنه معين على استذكار النعم كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: ((انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ))(28).

ثمرات الشكر:

إن فضيلة الشكر من أعظم النعم، ولا يمكن أن يحافظ على هذه النعمة إلا مُعانٌ من قِبَلِ الرحمن، ولذا كانت وصيةُ النبيِّ-صلى الله عليه وسلم- لمعاذٍ -رضي الله عنه- بقوله: "أُوصيكَ يا معاذ لا تَدَعنَّ في دُبُر كُل صلاةٍ أن تقول: اللهُمَّ أعني على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبادَتك"(29). وكان من دعاء النبي-صلى الله عليه وسلم-: (( رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الهُدَى لِي، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ، رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا، لَكَ ذَكَّارًا، لَكَ رَهَّابًا، لَكَ مِطْوَاعًا، لَكَ مُخْبِتًا، إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا. . . الحديث))(30).

ومن فوائد وثمرات الشكر التي تعود على العبد:

1-الشكر أمان من عذاب الله:

قال سبحانه: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا } [النساء: 147]

2-الشكر سبب لزيادة النعم وحِفظِهَا:

قال تعالى: { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].

الجزاء عن شكر النعمة بالزيادة منها نعمة وفضل من الله، قَالَ عُمَارَةُ بْنُ حَمْزَةَ: " إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلَا تُنَفِّرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ "(31).

وعَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه-، أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ هَمْدَانَ: " إِنَّ النِّعْمَةَ مَوْصُولَةٌ بِالشُّكْرِ، وَالشُّكْرُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَزِيدِ، وَهُمَا مَقْرُونَانِ فِي قَرْنٍ، وَلَنْ يَنْقَطِعَ الْمَزِيدُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَنْقَطِعَ الشُّكْرُ مِنَ الْعَبْدِ "(32).

3-الشكر موصلٌ لمرضاة الربِّ ومحبته:

قال جلَّ شأنه: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ-رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا))(33).

4-الشكر سببٌ في نيلِ الأجرَ الجزيل:

قال تعالى: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } [آل عمران: 144]

وإظهارُ الاسمِ الجليلِ-لفظ الجلالة- في موقع الإضمار لإبراز مزيدِ الاعتناءِ بشأن جزائِهم(34).

وقال السعدي: "لم يذكر جزاءهم ليدل ذلك على كثرته وعظمته، وليعلم أن الجزاء على قدر الشكر، قلًة وكثرًة وحُسنًا"(35).

5-الشكر ينجي العبد من المهالك:

قال سبحانه مخبرًا عن قوم لوط: { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) }[القمر: 34 - 36]

قال الطبري: "قوله تعالى: (كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) يقول: وكما أثبنا لوطًا وآله، وأنعمنا عليه، فأنجيناهم من عذابنا بطاعتهم إيانا كذلك نثيب من شكرنا على نعمتنا عليه، فأطاعنا وانتهى إلى أمرنا ونهينا من جميع خلقنا"(36)

---

(1) انظر تفسير الطبري (20/ 147)، وتفسير ابن كثير (6/ 347).

(2) لسان العرب (4/ 423)، لابن منظور.

(3) انظر الكليات (ص: 534)، للكفوي، ولسان العرب (4/ 423).

(4) التوقيف على مهمات التعاريف (ص: 206)، للمناوي.

(5) مدارج السالكين لابن القيم (2/ 234).

(6) مدارج السالكين (2/ 233)

(7) الفوائد لابن القيم (ص: 128) مختصرًا.

(8) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص: 116)لابن القيم.

(9) تفسير السعدي (ص: 81).

(10) انظر التحرير والتنوير (1/ 501)، لابن عاشور، وأبحاث هيئة كبار العلماء (5/ 5).

(11) التحرير والتنوير لابن عاشور(22/ 163).

(12) تفسير القرطبي (14/ 276).

(13) أخرجه البخاري(6471)، من حديث المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رضي الله عنه-.

(14) وانظر فتح القدير للشوكاني (4/ 518)، مدارج السالكين لابن القيم (2/ 236)،

(15) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 264).

(16) جامع العلوم والحكم (2/ 79)، لابن رجب.

(17) تفسير ابن كثير (4/ 511).

(18) انظر فتح القدير للشوكاني (3/ 132)، التحرير والتنوير(13/236)، لابن عاشور.

(19) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 22)، لابي نعيم.

(20) المجالسة وجواهر العلم (3/ 145)لأبي بكر الدينوري.

(21) يعني: يا فلان. انظر الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (5/ 1793) للجوهري، في مادة(فلل).

(22) أخرجه مسلم(2986)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(23) أخرجه أحمد(10378) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- بإسناد صحيح على شرط مسلم.

(24) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف(36306).

(25) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 234)، لابن القيم.

(26) المجالسة وجواهر العلم(2363) لأبي بكر الدينوري.

(27) تفسير الطبري (24/ 582).

(28) أخرجه مسلم(9) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(29) أخرجه أبو داوود(1522)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود(1362).

(30) أخرجه الترمذي(3551)، من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (8/ 51).

(31) انظر التحرير والتنوير (13/ 193) لابن عاشور، والأثر أخرجه البيهقي في شعب الإيمان(4239).

(32) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4214).

(33) أخرجه مسلم(89).

(34) تفسير أبي السعود (2/ 94).

(35) تفسير السعدي (ص: 151).

(36) تفسير الطبري (22/ 596).

عدد المشاهدات 9494