عبادة السر - خطبة : عدد جمادى الآخرة 1439هـ من كتاب الواعظ

2018-02-28

اللجنة العلمية

عِبَـــــــــادَةُ السِّــــــــــرِّ

عبادة السر

لو نظرنا إلى أولئك الرجال الذين نسمع قصصهم ونرى آثارهم ونقرأ مصنفاتهم، وكأنهم أحياء بيننا بذكرهم وعلمهم وبما تركوا من العلم النافع، وإن غابوا عن الأعين في بطون الأرض وهم أموات إلا أنهم لا تزال أسماءهم تتردد على الألسن، فنتساءل ما السر في حياة هؤلاء وما العمل الذي عملوه كي يستحقوا أن تخلد أسماؤهم وإن ماتوا من مئات السنين، مع العلم أنهم لم يؤثر عنهم كثير صوم أو صلاة، فلعل هؤلاء كانت لهم سريرة بينهم وبين خالقهم عز وجل،

قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا ارْتَفَعَ مِثْلَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ لَيْسَ لَهُ كَثِيرُ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ سَرِيرَةٌ(1).

ولعل السر والدافع الذي جعل السلف يسرون ويخفون أعمالهم، هو الإخلاص في العمل والخوف من عدم القبول، والخوف من الرياء والنفاق وسوء الخاتمة.

أهمية الإخلاص في العبادة

ومما يدل على أهمية الإخلاص أن الله عز وجل أمر به عباده فقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]

وما صنَّفَ إمامٌ من أئمةٍ السلفِ كتاباً إلا قدَّمه بالحديث عن الإخلاص في النية: وذلك طلباً لرضى الله ورجاءً في قبول العمل، ومن أمثلة ذلك:

ما ذكره الإمامُ البخاري في صدر كتابه الجامع الصحيح حديث عمر-رضي الله عنه-،"إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"(2).

قال ابن بطال : وإنما قدَّم البخاري، حديث "الأعمال بالنيات" فى أول كتابه، ليُعلمَ أنَّه قَصَدَ فى تأليفه وجه الله عز وجل، ففائدة هذا المعنى، أن يكون تنبيهًا لكل من قرأ كتابه، أن يقصد به وجه الله تعالى كما قصده البخاري فى تأليفه(3).

وقال ابن دقيق العيد: حديث {إنما الأعمال بالنيات} قال أبو داود: إنه نصف الإسلام ، أي: لأن الدين إما ظاهر، وهو العمل، أو باطن، وهو النية، والشافعي قال إنه ثلثـه، لأن كسب العبد إما بقلبه أو بلسانه أو بجوارحه، والنية أحدهما(4).

وليس هناك أخطر على العبادة من الرياء وهو أخوف شيء خافه النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته فعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ-رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ " قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً "(5).

ومن أفزع الأحاديث على قلوب المخلصين حديث الثلاثة الذين تسعر بهم النار الذي جعل أبا هريرة -رضي الله عنه-، كلما حدَّث به سقط مغشيًا عليه من الخوف، فعَن شُفَيٍّ الأَصْبَحِىِّ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقَالُوا أَبُو هُرَيْرَةَ-وفيه-ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً ثُمَّ مَالَ خَارًّا عَلَى وَجْهِهِ فَأَسْنَدْتُهُ عَلَىَّ طَوِيلاً ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ حَدَّثَنِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِىَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَرَجُلٌ قُتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي قَالَ بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ قَالَ كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فُلاَنًا قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ. وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ قَالَ بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ قَالَ كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلاَنٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ. وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ فِى مَاذَا قُتِلْتَ فَيَقُولُ أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِى سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ. فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلاَنٌ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ ". ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ: " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلاَثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".

فدَخَلَ رَجُلٌ يَعْنِي عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَحَدَّثَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ قَدْ فُعِلَ بِهَؤُلاَءِ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ بَقِىَ مِنَ النَّاسِ ثُمَّ بَكَى مُعَاوِيَةُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ هَالِكٌ وَقُلْنَا قَدْ جَاءَنَا هَذَا الرَّجُلُ بِشَرٍّ ثُمَّ أَفَاقَ مُعَاوِيَةُ وَمَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16](6).

فضل العبادة في السر

وفضل عبادة السر متنوع يدخل في سائر الأعمال كالصدقة والصيام والقيام والبكاء من خشية الله وفي غيرها من الأعمال ولقد كثرت الأدلة من الكتاب والسنة التي ترغب في عمل السر ومن ذلك:

قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271]

قال ابن كثير: "فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها؛ لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة، من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية "(7).

وقال سبحانه: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]

قال الطبري: " قوله تعالى:{تَضَرُّعًا}تذلُّلا واستكانة لطاعته { وَخُفْيَةً }أي بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين منكم بوحدانيته فيما بينكم وبينه، لا جهارًا ومراءاةً، وقلوبكم غير موقنة بوحدانيته وربوبيته، فِعلَ أهل النفاق والخداع لله ولرسوله"(8).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ ذكر منهم- رَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ(9).

قال ابن حجر: "قوله ذكر الله أي بقلبه من التذكر أو بلسانه من الذكر وخاليا أي من الخلو لأنه يكون حينئذ أبعد من الرياء والمراد خاليا من الالتفات إلى غير الله ولو كان في ملأ.

قال القرطبي: وفيض العين بحسب حال الذاكر وبحسب ما يكشف له ففي حال أوصاف الجلال يكون البكاء من خشية الله وفي حال أوصاف الجمال يكون البكاء من الشوق إليه"(10).

قِيلَ لِلْحَسَنِ: مَا بَالُ الْمُتَهَجِّدِينَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وُجُوهًا؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ خَلَوْا بِالرَّحْمَنِ فَأَلْبَسَهُمْ مِنْ نُورِهِ نُورًا(11).

وقال ابن رجب: "وأفضلُ الأعمال خشية الله فِي السر والعلانية ، وخشية الله فِي السر إنما تصدر

عَن قوة إيمان ومجاهدةٍ للنفس والهوى ، فإن الهوى يدعو فِي الخلوة إلى المعاصي ، ولهذا قيل : إن من أعز الأشياء الورع فِي الخلوة" (12).

وعن سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ -رضي الله عنه-، قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِىَّ الْغَنِىَّ الْخَفِيَّ "(13).

والتقي : الذي يتقي الله عز وجل فيقوم بأوامره ويجتنب نواهيه، والغني : من استغنى بالله ، ورضي بما قسم الله له، وقيل : يعني به غنى النفس، والخفي : يعني به الخامل الذي لا يريد العلو فيها ولا الظهور في مناصبها(14).

وعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ-رضي الله عنه-، يَقُولُ: "أَيُّكُمُ اسْتَطَاعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَبِيئَةٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ"(15).

وقال إِبْرَاهِيمُ بْنَ أَدْهَمَ: "مَا صَدَقَ اللهَ عَبْدٌ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ"(16).

وَقَالَ بِشْرٌ بن الحارث: "لَا يَجِدُ حَلَاوَةَ الْآخِرَةِ رَجُلٌ يُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَهَ النَّاسُ"(17).

السلف وعبادة السر

وفي الوقوف على حياة سلفنا الصالح فوائد كثيرة بها تعلو الهمم وترق القلوب وفيها عبرة لمن يعتبر، فإن الواحد منا قد يعجز عن إدراك الأنبياء وما كانوا عليه من الاستقامة والصلاح والعبادة فهم معصومون مؤيدون من قبل ربهم، لكن السلف هم بشر مثلنا ولا عصمة لهم بل إن بعضا ممن نذكر خبرهم لم يروا النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك فإنك ترى في أمرهم العجب لا سيما ما كانوا عليه من عبادة السر، فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ، قَالَ: "لَقَدْ أَدْرَكْتُ رِجَالًا كَانَ الرَّجُلُ يَكُونُ رَأْسُهُ مَعَ رَأْسِ امْرَأَتِهِ عَلَى وِسَادَةٍ وَاحِدَةٍ قَدْ بُلَّ مَا تَحْتَ خَدِّهِ مِنْ دُمُوعِهِ لَا تَشْعُرُ بِهِ امْرَأَتُهُ وَلَقَدْ أَدْرَكْتُ رِجَالًا يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي الصَّفِّ فَتَسِيلُ دُمُوعُهُ عَلَى خَدِّهِ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ الَّذِي إِلَى جَانِبِهِ"(18)، وعلى رأس هؤلاء صحابة نبينا رضوان الله عليهم، ثم الذين يلونهم من التابعين لهم بإحسان.

-فقد رُوي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-، خَرَجَ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ فَرَأَهُ طَلْحَةُ، فَذَهَبَ عُمَرُ فَدَخَلَ بَيْتًا ثُمَّ دَخَلَ بَيْتًا آخَرَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ طَلْحَةُ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ فَإِذَا بِعَجُوزٍ عَمْيَاءَ مُقْعَدَةٍ، فَقَالَ لَهَا: مَا بَالُ هَذَا الرَّجُلِ يَأْتِيكِ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ يَتَعَاهَدُنِي مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، يَأْتِينِي بِمَا يُصْلِحُنِي، وَيُخْرِجُ عَنِّي الْأَذَى، فَقَالَ طَلْحَةُ: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا طَلْحَةُ ‍أَعَثَرَاتِ عُمَرَ تَتْبَعُ؟"(19).

وَقَالَ أَسْلَمُ: خَرَجْتُ لَيْلَةً مَعَ عُمَرَ إِلَى حَرَّةِ وَاقِمٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِصِرَارٍ إِذَا بنار فقال: يا أسلم ههنا رَكْبٌ قَدْ قَصَّرَ بِهِمُ اللَّيْلُ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِمْ، فَأَتَيْنَاهُمْ فَإِذَا امْرَأَةٌ مَعَهَا صِبْيَانُ لَهَا وَقِدْرٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى النَّارِ وَصِبْيَانُهَا يَتَضَاغَوْنَ، فَقَالَ عُمَرُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَصْحَابَ الضَّوْءِ، قَالَتْ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ.

قَالَ: أَدْنُو. قَالَتْ: ادْنُ أَوْ دَعْ.

فَدَنَا فَقَالَ: مَا بَالُكُمْ؟ قَالَتْ: قَصَّرَ بِنَا اللَّيْلُ وَالْبَرْدُ.

قَالَ: فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَةِ يَتَضَاغَوْنَ؟ قَالَتْ: مِنَ الْجُوعِ.

فَقَالَ: وَأَيُّ شئ عَلَى النَّارِ؟ قَالَتْ: مَاءٌ أُعَلِّلُهُمْ بِهِ حَتَّى يَنَامُوا، اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عُمَرَ.

فَبَكَى عُمَرُ وَرَجَعَ يُهَرْوِلُ إِلَى دَارِ الدَّقِيقِ فَأَخْرَجَ عِدْلًا مِنْ دَقِيقٍ وَجِرَابَ شَحْمٍ، وَقَالَ: يَا أَسْلَمُ احْمِلْهُ عَلَى ظَهْرِي، فَقُلْتُ: أَنَا أَحْمِلُهُ عَنْكَ. فَقَالَ: أَنْتَ تَحْمِلُ وِزْرِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟.

فَحَمَلَهُ على ظهره وانطلقنا إلى المرأة فألقي عَنْ ظَهْرِهِ وَأَخْرَجَ مِنَ الدَّقِيقِ فِي الْقِدْرِ، وَأَلْقَى عَلَيْهِ مِنَ الشَّحْمِ، وَجَعَلَ يَنْفُخُ تَحْتَ الْقِدْرِ وَالدُّخَّانُ يَتَخَلَّلُ لِحْيَتَهُ سَاعَةً، ثُمَّ أَنْزَلَهَا عن النار وقال: إيتيني بصحفة.

فأتي بها فغرفها ثم تركها بَيْنَ يَدَيِ الصِّبْيَانِ وَقَالَ: كُلُوا، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا - وَالْمَرْأَةُ تَدْعُو لَهُ وَهِيَ لَا تَعْرِفُهُ - فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُمْ حَتَّى نَامَ الصِّغَارُ، ثُمَّ أوصلهم بنفقة وانصرف، ثم أقبل على فَقَالَ: يَا أَسْلَمُ الْجُوعُ الَّذِي أَسْهَرَهُمْ وَأَبْكَاهُمْ(20).

-وعَنْ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: " لَمَّا مَاتَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَغَسَّلُوهُ جَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَى آثَارٍ سَوْدَاءَ بِظَهْرِهِ، فَقَالُوا: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: كَانَ يَحْمِلُ جُرُبَ الدَّقِيقِ لَيْلًا عَلَى ظَهْرِهِ يُعْطِيهِ فُقَرَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ".

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: "كَانَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَعِيشُونَ لَا يَدْرُونَ مِنْ أَيْنَ كَانَ مَعَاشُهُمْ، فَلَمَّا مَاتَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَقَدُوا مَا كَانُوا يُؤْتَوْنَ بِهِ فِي اللَّيْلِ".

وعن مُحَمَّدِ بنِ حَفْصٍ القرشي قَالَ: " سَمِعْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، يَقُولُونَ: "مَا فَقَدْنَا صَدَقَةَ السِّرِّ حَتَّى مَاتَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ"(21).

-وعن امْرَأَةُ حَسَّانَ بْنِ أَبِي سِنَانٍ قَالَتْ: " كَانَ يَجِيئُ فَيَدْخُلُ مَعِي فِي فِرَاشِي ثُمَّ يُخادِعُنِي كَمَا تُخادِعُ الْمَرْأَةُ صَبِيَّهَا، فَإِذَا عَلِمَ أَنِّي قَدْ نِمْتُ سَلَّ نَفْسَهُ فَخَرَجَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي " قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ كَمْ تُعَذِّبُ نَفْسَكَ ارْفُقْ بِنَفْسِكَ، قَالَ: " اسْكُتِي وَيْحَكِ فيُوشِكُ أَنْ أَرْقُدَ رَقْدَةً لَا أَقُومُ مِنْهَا زَمَانًا "(22).

-وعَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: " كَانَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ فِي مَجْلِسٍ، فَجَاءَتْهُ عَبْرَةٌ، فَجَعَلَ يَمْتَخِطُ، فَيَقُولُ: "مَا أَشَدَّ الزُّكَامَ"(23).

-وكَانَ أَيُّوْبُ السِّخْتِيَانِيُّ يَقُوْمُ اللَّيلَ كُلَّه، فَيُخفِي ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ، رَفعَ صَوْتَه كَأَنَّهُ قَامَ تِلْكَ السَّاعَةَ(24).

-وعن زَائِدَةَ أن مَنْصُوْرَ بنَ المُعْتَمِرِ صَامَ أَرْبَعِيْنَ سَنَةً، وَقَامَ لَيْلَهَا، وَكَانَ يَبْكِي، فَتَقُوْلُ لَهُ أُمُّهُ: يَا بُنَيَّ، قَتَلتَ قَتِيْلاً؟

فَيَقُوْلُ: أَنَا أَعْلَمُ بِمَا صَنَعتُ بِنَفْسِي.

فَإِذَا كَانَ الصُّبْحُ، كَحَّلَ عَيْنَيْهِ، وَدَهَنَ رَأْسَه، وَبرَّقَ شَفَتَيْهِ، وَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ.

وَذَكَرَ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ مَنْصُوْراً، فَقَالَ: قَدْ كَانَ عَمِشَ مِنَ البُكَاءِ(25).

وصَامَ دَاوُدُ بنُ أَبِي هِنْدٍ أَرْبَعِيْنَ سَنَةً، لاَ يَعْلَمُ بِهِ أَهْلُه، كَانَ خَزَّازاً، يَحْمِلُ مَعَهُ غَدَاءهُ، فَيَتصدَّقُ بِهِ فِي الطَّرِيقِ(26).

وقال الشَّافِعِيُّ: "وَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ تَعَلَّمُوا هَذَا العِلْمَ -يَعْنِي: كُتُبَهُ- عَلَى أَنْ لاَ يُنْسَبَ إِلَيَّ مِنْهُ شَيْءٌ"(27).

وقال الحسن: "كنت مع ابن المبارك يوماً فأتينا على سقاية والناس يشربون منها، فدنا منها ليشرب ولم يعرفه الناس فزحموه ودفعوه فلما خرج قال لي: ما العيش إلا هكذا. يعني حيث لم نعرف ولم نوقر"(28).

هذه مواقف لسلفنا رحمة الله عليهم وهذه صور من حياة أولئك النبلاء الأعلام وأولئك الأخفياء الذين حرصوا أن يكون لهم خبيئة من عمل، الذين حرصوا أن يكون بينهم وبين الله أسرار وأسرار، فاقتدوا بهم واقتفوا آثارهم واعرفوا لهم فضلهم فإنهم كانوا على هدى مستقيم.

لكن كيف السبيل إلى طريقهم؟!

ومما يعين على الوصول إلى ما وصل إليه هؤلاء : الإكثار من القراءة في تراجم العلماء الربّانيين والعُبّاد الزاهدين، ومحاسبة النفس، وإدراك ثمار وفوائد قُرَب السِّر، وتنمية الحياء من النفس وجعله في رتبة أعلى من رتبة الحياء من الخلق، ومرافقة من تنفع مرافقته في الآخرة وتزيد صحبته المرء قرباً من الله تعالى، وتخصيص أوقات للخلوة بالله والأنس به والعيش في كنفه من اعتكاف وقيام ليل وخلوات للتفكر في ملكوت الله سبحانه وتعالى والذكر والدعاء والقراءة ونحو ذلك.

عن مسروق بن الأجدع قال: "إِنَّ الْمَرْءَ لَحَقِيقٌ أَنْ تَكُونَ لَهُ مَجَالِسُ يَخْلُو فِيهَا يَذْكُرُ فِيهَا ذُنُوبَهُ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهَا".

وليس كلُّ خفاءٍ يُحمد

وهناك أخفياءٌ لكن من نوع آخر، وما أكثرهم في زماننا-إلا من رحم ربك- يحرصون كل الحرص ألا يراهم أحد من الناس وما يفعلون، ولكنهم لا يختفون عن أعين الناس بعمل صالح طلبا للإخلاص وخشية الرياء فيه، لكنهم عاكفون في الخلوات على المحرمات ولا حول ولا قوة إلا بالله، غفل هؤلاء عن مراقبة ربهم، ونسوا أن الله عز وجل يعلم سرهم ونجواهم وأنهم إليه راجعون، فعَنْ ثَوْبَانَ بن بجدد -رضي الله عنه-، مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا" قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ. قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا"(29).

أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم- عن هؤلاء أنهم من المسلمين، بل إنهم يصلون ويصومون ويأخذون نصيبًا من قيام الليل لكن إذا كانوا أمام الناس جدوا واجتهدوا في العمل والعبادة، أما إذا خلوا واستتروا عن أعين الناس فعلوا المحرمات فكانت هذه عادتهم فاستحقوا أن يحبط الله أعمالهم.

قال ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: " أَخْسَرُ الْخَاسِرِينَ مَنْ أَبْدَى لِلنَّاسِ صَالِحَ أَعْمَالِهِ، وَبَارَزَ بِالْقَبِيحِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ"(30).

ثمرات العبادة في السر

ومن أعظم الثمرات التي يحصلها العبد من العبادة في السر أن تورث عنده مراقبة من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وكذا مخافته جل جلاله والحياء منه والتعرف على جلاله وعظمته سبحانه وتعالى ومنها:

1- محبة الله عز وجل والدخول تحت ظل عرشه يوم القيامة:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، منهم: وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، ومنهم: وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ "(31).

2-تورث الخشية من الله جل جلاله التي بها ينال العبد المغفرة من الله والأجر العظيم:

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12]

قال ابن كثير: "يقول تعالى مخبرًا عمن يخاف مقام ربه فيما بينه وبينه إذا كان غائبًا عن الناس، فينكف عن المعاصي ويقوم بالطاعات، حيث لا يراه أحد إلا الله، بأنه له مغفرة وأجر كبير، أي: يكفر عنه ذنوبه، ويجازى بالثواب الجزيل"(32).

---

(1) حلية الأولياء لأبي نعيم(6/ 330).

(2) أخرجه البخاري (1).

(3) شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 31).

(4) شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد (ص: 22).

(5) أخرجه أحمد(23630)، وصححه الألباني في الجامع الصغير(2435).

(6) أصل الحديث مختصرًا عند مسلم(1905)، وأخرجه الترمذي(2557) بهذا اللفظ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (22).

(7) تفسير ابن كثير(1/ 701).

(8) تفسير الطبري(12/ 485).

(9) أخرجه البخاري(660)، ومسلم(1031).

(10) فتح الباري لابن حجر (2/ 147).

(11) مختصر قيام الليل لابن نصر المروزي(ص: 58).

(12) فتح الباري لابن رجب (4/ 63).

(13) أخرجه مسلم(2965).

(14) وانظر المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم لأبي العباس القرطبي(22/ 149)، وشرح رياض الصالحين لابن عثيمين(ص: 629).

(15) الزهد والرقائق لابن المبارك(1109)، ومسند ابن الجعد (682).

(16) حلية الأولياء لأبي نعيم(8/ 31).

(17) حلية الأولياء لأبي نعيم(8/ 343).

(18) حلية الأولياء لأبي نعيم(2/ 347).

(19) حلية الأولياء لأبي نعيم(1/ 48)، وحياة الصحابة للكاندهلوي(2/ 218).

(20) البداية والنهاية لابن كثير(7/ 153).

(21) حلية الأولياء لأبي نعيم(3/ 136).

(22) أخرجه البيهقي شعب الإيمان(2932)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (3/ 117).

(23) أخرجه علي بن الجعد في مسنده(1246).

(24) سير أعلام النبلاء للذهبي(6/ 17).

(25) سير أعلام النبلاء للذهبي(5/ 406).

(26) سير أعلام النبلاء للذهبي(6/ 378).

(27) سير أعلام النبلاء للذهبي(10/ 29).

(28) صفة الصفوة لابن الجوزي(2/ 323).

(29) أخرجه ابن ماجة(4245)، وصححه الألباني في الجامع الصغير(9159).

(30) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6591).

(31) أخرجه البخاري(660)، ومسلم(2427).

(32) تفسير ابن كثير(8/ 179).

عدد المشاهدات 9387