الفتن أسبابها وموقف المسلم منها

2019-01-01

اللجنة العلمية

الفتن أسبابها وموقف المسلم منها

الأمة الإسلامية اليوم تعيش زمنًا عصيبًا، تحتاج معه إلى فقهٍ ودرايةٍ، وسعة نظرٍ وإدراكٍ، حتى يمكنها أن تحدد الجرح، وتضع الدواء المناسب عليه، ثم تحيطه بعصابة تسارع في بُرْئه، فتستطيع بذلك أن تحمي الأجزاء السليمة أن يطولها الضرّ أو يغشاها البلاء.

فما أحوجنا في هذا الزمان المملوء بالفتن والأكدار إلى أن نستبصر بطبائع الفتن، وكيفية النجاة منها، من خلال هدي القرآن الكريم والسنة الشريفة، وكذا هدي الصحابة الكرام -رضي الله عنهم أجمعين-.

ومن هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي هو خير الهدى: الاستعداد للفتن قبل نزولها، بالتسلح بالعلم والبصيرة، مع العمل والاجتهاد، والاستعداد ليوم المعاد، عسى أن ننتبه عن الذنوب، وتلين منا القلوب، ونستيقظ من الغفلة، ونغتنم المهلة قبل المباغتة والوَهْلَة.

إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم-بوقوع الفتن

الفتن واقعةٌ في أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- كونًا وقدرًا، ولا بد من أن يقع ما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما أخبر، ومِن ثَمَّ فلا بد من التبصر بها، والاستعداد لها، والحذر منها، بل يجب مضاعفة الحذر منها في عصرنا؛ لأننا صِرنا أقربَ إلى أشراط الساعة مما كان عليه المسلمون منذ أربعة عشر قرنًا.

عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَشْرَفَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ المَدِينَةِ، ثُمَّ قَالَ: (هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنِّي أَرَى مَوَاقِعَ الفِتَنِ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ القَطْرِ)(1)

 قال النووي: والتشبيه بمواقع القطر في الكثرة والعموم، أي: إنها كثيرة وتعم الناس لاتختص بها طائفةٌ.(2)

عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَذْكُرُ الْفِتَنَ؟ فَقَالَ قوْمٌ: نَحْنُ سَمِعْنَاهُ، فَقَالَ: لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ فِتْنَةَ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَجَارِهِ؟ قَالُوا: أَجَلْ، قَالَ: تِلْكَ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ، وَلَكِنْ أَيُّكُمْ سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَذْكُرُ الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ، فَقُلْتُ: أَنَا، قَالَ: أَنْتَ لِلَّهِ أَبُوكَ قَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)(3)

قال النووي: وقوله (التي تموج كما يموج البحر) أي: تضطرب ويدفع بعضها بعضًا، وشبهها بموج البحر لشدة عظمها، وكثرة شيوعها.(4)

أسباب وقوع الفتن

السبب الأول: البعد عن  المنهج الصحيح واتباع المتشابه

قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ) (آل عمران /7).

قال ابن كثير: يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، أَيْ: بَيِّنَاتٌ وَاضِحَاتُ الدَّلَالَةِ، لَا الْتِبَاسَ فِيهَا عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْهُ آيَاتٌ أُخَرُ فِيهَا اشْتِبَاهٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَوْ بَعْضِهِمْ، فَمَنْ رَدَّ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى الْوَاضِحِ مِنْهُ، وَحَكَّمَ مُحْكَمَهُ عَلَى مُتَشَابِهِهِ عِنْدَهُ، فَقَدِ اهْتَدَى.وَمَنْ عَكَسَ انْعَكَسَ(5).

عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ)(6)

السبب الثاني: اتباع الهوى

قال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص: 26]

وقال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) [الجاثية: 23]

فالهوى يُعمي ويصمّ، ويجعل صاحبه يرى المنكر معروفًا والمعروف منكرًا

السبب الثالث: الغلو

وليعلم أن الغلو في الدين أعظم من وقوع الإنسان في المعصية، وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الغلو في الدين، فقال: " إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ "(7)

السبب الرابع: الإشاعات

الإشاعة التي تسبب في ظهور الفتن هي الأحاديث والأقوال والأخبار التي يتناقلها الناس، والقصص التي يروونها دون التثبت من صحتها، أو التحقق من صدقها مما له أثرٌ في إذكاء العداوة بين المؤمنين، وإيجاد الفرقة والاختلاف بينهم.

ومن خلال تعريف الإشاعة الآنف الذكر يمكن القول، بأن كثيرًا من الفتن، سببها الإشاعات، وإليك أمثلة على ذلك:

في معركة أحد، عندما أشاع الكفار أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد قتل، فَتَّ ذلك في عضد كثير من المسلمين، حتى إن بعضهم ألقى السلاح، وترك القتال.

وإن ينس المرء الشائعات فلن ينسى حادثة الإفك، تلك الحادثة التي هزت بيت النبوة شهرًا كاملاً، بل هزت المدينة كلَّها.

وأدت الشائعات الكاذبة ضد الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إلى تجمع أخلاط من المنافقين، ودهماء الناس، وجهلتهم، وأصبحت لهم شوكة ومنعة، فقُتل على إثرها خليفة المسلمين بعد حصاره في بيته، وقطع الماء عنه.

إذًا فالإشاعة وسيلة من الوسائل الحربية الفتاكة، إذا استخدمت بمهارة - خاصة أيام الفتن - كما يفعل المنافقون في هذا الزمان، وفي كل زمان كان لها الأثر الكبير على مجريات الأحداث، فكم من أمة عانت طويلًا بسبب إشاعة أطلقها أعداؤهم.(8)

موقف المسلم في الفتن

أولاً: التعوذ بالله من إدراك زمانها

عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: قَالَ: (تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)(9).

ثانيًا: الاعتصام بالكتاب والسنة

إن الكتاب والسنة الصحيحة هما المصدر الأساسي للحق، والمنبع الصافي لدين الإسلام، فيهما المنهج الكامل لحياة البشر، وهما الميزان الصحيح الذي توزن به الأقوال والأعمال والأفعال، وبالإعراض عنهما، والصد عن سبيلهما تقع الفتن، وتحل الرزايا والمحن.

ولقد تضافرت أدلة الكتاب والسنة وأقوال السلف في التنبيه على هذا الأمر العظيم، وأن التمسك بهما سبب رئيس في النجاة من الفتن كلِّها.

قال تعالى -: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103]

قال الطبري: يعني بذلك جل ثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله جميعًا.وتمسَّكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عَهده إليكم في كتابه إليكم، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله.(10)

وكما تواترت أدلة القرآن على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة، فقد جاءت كذلك أدلة السنة على هذا النحو أيضًا، فعَنِ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا بَعْدَ صَلاَةِ الغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلاَلَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ.(11)

ثالثًا: لزوم جماعة المسلمين(12)

إن من أهم الأمور التي ينجو بها المسلم من فتنة الصد عن سبيل الله - تعالى -، وفتنة الاختلاف والتفرق

لزوم جماعة المسلمين، والحذر من أسباب الفرقة والاختلاف.

وإن في شرع ربِّنا المطهر، المتمثل في الكتاب والسنة ما يدعو إلى لزوم الجماعة بقوة، ويحذر من الاختلاف أيما تحذير.

قال ربنا - عز وجل -: (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا)

وكما جاء القرآن بالتحذير من الفرقة فقد جاء ذلك أيضًا في السنة الشريفة

فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَرْوِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا، فَمَاتَ، فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ)(13)

والجماعة ليست بالكثرة ولكن من كان على منهج أهل السنة والجماعة فهو الجماعة.

رابعًا: الصبر

من أعظم الأسلحة النافعة في أيام الفتن والمحن سلاح الصبر.

فالبصر أمام الفتن يتميز الصادقون من الكاذبين، والمؤمنون من المنافقين، والطيبون من الخبيثين.

الفتن التي من صبر علها كانت رحمة في حقه، ونجا بصبره تجاهها من فتنة أعظم منها، ومن لم يصبر عليها وقع في فتنة أشد منها.

كما في الحديث أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ لِلْمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ)، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: (بَلْ مِنْكُمْ)(14)

وعن المقدادِ بن الأسود، قال: أيمُ الله، لقد سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن السعيدَ لَمَن جُنِّبَ الفِتَنَ، إنَّ السعيدَ لَمَن جُنِّبَ الفِتَنَ، إن السعيدَ لَمَن جُنِّبَ الفِتَنَ، ولَمَن ابتُلِيَ فَصَبَرَ فواهاً"(15)

خامسًا: اللجوء إلى الله  تعالى

اللجوء إلى الله - عز وجل - وبخاصةٍ في أيام الفتن من أهم الأمور، وأقوم السبل للخلاص والنجاة من الفتن كبيرها وصغيرها.

نعم إن المرء إذا تأمل في أي فتنةٍ من الفتن، فتنة الدنيا بما فيها من شهوات وأهواء، وفتنة الممات والحشر والنشر وأهوال الآخرة، فتنة التسلط والقتال والحرب، فتنة الغرور والإعجاب بالنفس، فتنة قلب الحقائق، واختلال الموازين، وكبت صوت الحق، وارتفاع صوت الباطل، كل هذه الفتن، وتلك المحن لابد للنجاة منها من لجوء إلى الله - تعالى - وابتهال بين يديه أن ينقذ النفوس منها، وينجيهم من شرها.

كم نحن بحاجة للتوجه إلى الله في كل ما يعرض علينا من ظلم وعدوان أو فقر وحرمان، أو مرض في الأبدان، أو غير ذلك مما لا يملك كشفه وإزالته إلا الله وحده: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) [الأنعام: 14].

على الأمة وهي تواجه الأزمات أن تتجه إلى الله ـ تعالى ـ وتلجأ إليه، وتلوذ بجنابه، وتحتمي بحماه، فإنها بذلك تلجأ إلى ركن شديد، ورب مجيد يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ) [النمل: 62] وإذا لم يكن عونُ الله، وُكِلَ الإنسان إلى نفسه، ومن وُكِلَ إلى نفسه هلك.

سادسًا: الحذر من الإشاعات

قد عرفنا مما سبق خطر الإشاعة، وأثرها في إحداث الفتن وتفريق الصفوف، وتحطيم العزائم، ونشر العداوات، وشماتة الأعداء، فإن علاج ذلك إنما يكون بالحذر منها، ولذا فإني أبرز الآن أهم الأمور التي يمكن من خلالها الحذر من الإشاعات، في النقاط التالية:

1 - تذكير الناقل بالله - تعالى - وتحذيره من مغبة القول على الله بلا علم.

2 - تذكير الناقل بالعاقبة المتحصلة إذا كانت الإشاعة كذبًا أو مبالغًا فيها.

3 - عدم التعجل في تقبل الإشاعة دون استفهام أو اعتراض.

4 - عدم ترديد الإشاعة؛ لأن في ترديدها زيادة انتشار لها، مع إضفاء كثير من الكذب عليها.

5 - عدم المبالاة، أو إظهار التعجب والاهتمام عند سماع الإشاعة من أطراف أخرى، والتشكيك في صحتها، فهذا بحد ذاته يخفف وطأة ناقلي الإشاعة، ويجعلهم يراجعون أنفسهم قبل بث تلك الإشاعة.

وليعلم أن الإعراض عن الإشاعة وعدم الاكتراث بها سبب رئيس في إخماد الإشاعة، إذ الإعراض عن القول المطَّرح أحرى لإماتته وإخماد ذكره قائله، وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيهًا للجُهال عليه.

6 - عدم الاستماع بالمرة إلى ما يقوله الكذابون والمنافقون والمغتابون، وأصحاب القلوب المريضة، وعدم الرضى بذلك، كما هو منهج السلف - رحمهم الله -.

7 - أن يسارع من تُنقل إليه الإشاعة إلى استشارة أهل العلم والفضل في أمر هذه الإشاعة، وعليه أن يأخذ بمشورتهم، فإنهم أدرى بالمصلحة، بحكم علمهم وتجربتهم، بل قد بيّن الله - تعالى - في محكم التنزيل أن هذا المسلك هو المنهج السليم في مثل هذا.

قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء: 83]

قال السعدي: هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة، والمصالح العامة، ما يتعلق بالأمن، وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم، أن يتثبتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول، وإلى أولي الأمر منهم، أهل الرأي والعلم والنصح والعقل، والرزانة، الذين يعرفون الأمور، ويعرفون المصالح وضدها.

فإن رأوا في إذاعته مصلحةً ونشاطًا للمؤمنين، وسرورًا لهم، وتحرزًا من أعدائهم فعلى ذلك.وإن لم يروا فيه مصلحة، أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه، ولهذا قال: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي يستخرجونه بفكرهم، وآرائهم السديدة، وعلومهم الرشيدة.

وفي هذا دليل لقاعدة أدبية، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يُولَّى مَن هو أهلٌ لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب، وأحرى للسلامة من الخطأ.

وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام، والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لا فيُحجِم عنه؟ (16).

سابعًا: النظر في العواقب

فمن لم ينظر في العواقب فليس بفقيه، ولهذا فإن من قواعد أهل العلم قولهم: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

ففي زمن الفتن ليس كل مقال يبدو لك حسنًا تظهره ولا كل فعل يبدو لك حسنًا تفعله، لأن القول أو الفعل زمن الفتنة يترتب عليه أمور، يفهم بعضهم أشياء لا تبلغها عقولهم ويبنون عليها اعتقاداتٍ أو أعمالًا أو أقوالًا لا تكون عاقبتها حميدة.

وسلفنا الصالح أحبوا السلامة في الفتن فسكتوا عن أشياء كثيرة طلبًا للسلامة في دينهم

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وِعَاءَيْنِ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ.(17)

قال ابن حجر: : وَحَمَلَ الْعُلَمَاء الْوِعَاء الَّذِي لَمْ يَبُثّهُ عَلَى الأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا تَبْيِين أَسَامِي أُمَرَاء السُّوء وَأَحْوَالهمْ وَزَمَنهمْ، وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَة يَكُنِّي عَنْ بَعْضه وَلا يُصَرِّح بِهِ خَوْفًا عَلَى نَفْسه مِنْهُمْ، كَقَوْلِهِ: أَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ رَأْس السِّتِّينَ وَإِمَارَة الصِّبْيَان يُشِير إِلَى خِلَافَة يَزِيد بْن مُعَاوِيَة لأنَّهَا كَانَتْ سَنَة سِتِّينَ مِنْ الْهِجْرَة.وَاسْتَجَابَ اللَّه دُعَاء أَبِي هُرَيْرَة فَمَاتَ قَبْلهَا بِسَنَةٍ اهـ.(18)

فأبو هريرة - رضي الله عنه - كتم الوعاء الآخر الذي حفظه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يبثه، بل حفظ لسانه وكفه من إشاعته؛ درءًا للمفسدة وخشية الفتنة، علمًا بأنه قال هذا الكلام في زمن معاوية رضي الله عنه، ومعاوية قد اجتمع الناس عليه بعد فرقة وقتال، معلوم في التاريخ ما حصل فيه، فأبو هريرة كتم الوعاء الآخر، ولم يبثه في ذلك الزمن، وكتم - أيضًا- بعض الأحاديث الأخرى التي ليست من الأحكام الشرعية؛ كل ذلك لأجل ألَّا تكون فتنة بين الناس، فهو - رضي الله عنه - لم يقل: إن رواية الحديث وقوله حق، ولا يجوز كتمان العلم، لم يقل ذلك؛ لأن كتم العلم في مثل ذلك الوقت -وقت الفتن- الذي تكلم فيه أبو هريرة لا بُدَّ منه؛ جلبًا للمصلحة ودرءًا للمفسدة، لكيلا يتفرق الناس شذَر مذَر بعد أن اجتمعوا في عام الجماعة على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.وصنيع أبي هريرة هذا يدل على حكمته وحصافته وفطنته رضي الله عنه؛ حيث حفظ لسانه زمن الفتنة بُغية اجتماع الأمة وعدم افتراقها.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ)(19)

وعن عبدالله بن مسعود قال: (مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً)(20)

ثامنًا: الانشغال بالعبادة والعمل الصالح وقت الفتنة

في مواطن الفتن والنوازل ينشغل كثيرٌ من الناس بتتبع الأخبار، ويولعون بذلك، ومِن ثَمَّ يغلب على أحاديث المجالس: "سمعت، ورأيت، وأتوقع، ولو كان كذا كان أولى، ولو قُدّم هذا أو أُخِّر ذاك لكان أحرى"، مما يصرف هممهم عن النوافل المستحبة، وربما فرَّطوا في الواجبات، أو أخرجوا الصلاة عن وقتها بسبب السهر في السمر والجدل مثلًا، بجانب الإخلال بواجبات المعاش، وحقوق الأهل والأولاد.

فعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ"(21).

قال النووي: الْمُرَاد بِالْهَرْجِ هُنَا الْفِتْنَة وَاخْتِلاط أُمُور النَّاس.وَسَبَب كَثْرَة فَضْل الْعِبَادَة فِيهِ أَنَّ النَّاس يَغْفُلُونَ عَنْهَا، وَيَشْتَغِلُونَ عَنْهَا، وَلا يَتَفَرَّغ لَهَا إِلا أَفْرَاد(22).

فكَأَنَّ فِي الْحَدِيث إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْفِتَن وَالْمَشَقَّة الْبَالِغَة سَتَقَعُ حَتَّى يَخِفّ أَمْر الدِّين وَيَقِلّ الاعْتِنَاء بِأَمْرِهِ وَلا يَبْقَى لأَحَدٍ اِعْتِنَاء إِلا بِأَمْرِ دُنْيَاهُ وَمَعَاشه نَفْسه وَمَا يَتَعَلَّق بِهِ، وَمِنْ ثَمَّ عَظُمَ قَدْر الْعِبَادَة أَيَّام الْفِتْنَة(23).

فالمؤمن مطالب بعبادة الله تعالى على الدوام، ولاسيما في أوقات الفتن والأزمات، مطالب بالاشتغال بالشيء المثمر من المحافظة على الصلاة واللهج بالذكر، والإلحاح في الدعاء، بدلًا من تضييع الأوقات في الأحاديث التي لا تنفع، بل قد تضر.

وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الفِتَنِ، وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الخَزَائِنِ، أَيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ الحُجَرِ، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ)(24)

 فالعمل الصالح وسيلة للثبات على الحق، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) [النساء: 66].

وإن النفس وقت الفتن إن لم يبادر المؤمن بإشغالها بالحق، شغلته بالباطل ولا بد.

تاسعًا: التسلح بالعلم الشرعي: فالعلم الشرعي مطلب مهم في مواجهة الفتن حتى يكون المسلم على بصيرةٍ من أمر دينه وإذا فقد المسلم العلم الشرعي تخبط في هذه الفتن.

ومعلوم أن من أشراط الساعة ذهاب العلم فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: أَنْ يُرْفَعَ العِلْمُ وَيَثْبُتَ الجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا "(25)

فكل أنواع الفتن لا سبيل للتخلص منها والنجاة منها إلا بالتفقه في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-ومعرفة منهج سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم ومن سلك سبيلهم من أئمة الإِسلام ودعاة الهدى.

ومن الضروري أن يغتنم الإنسان أوقات الرخاء للتعلم قبل أن تجيئه الفتن فلا يجد وقتا للتعلم.

عاشرًا: الالتفاف حول العلماء والدعاة الصادقين.

قال الله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [الأنبياء: 7] وقال -عزَّ وجلَّ-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83].

قال السعدي: وفي هذا دليلٌ لقاعدةٍ أدبيةٍ وهي أنه إذا حصل بحثٌ في أمرٍ من الأمور، ينبغي أن يُولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ.(26)

إن ذهاب العلم مقترن برواج الفتن، وإن الالتحام بالعلماء عصمة للأمة من الضلال، والعلماء سفينة نوح، من تخلَّف عنها -لا سيما في زمان الفتن- كان من المغرقين.

وعَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي مُوسَى، فَقَالاَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا، يَنْزِلُ فِيهَا الجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا العِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الهَرْجُ)(27)

وسبب قلة العلم موت حَمَلَتِهِ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)(28)

 فمن الأهمية وجود العلماء والدعاة الذين يُلتف حولهم، فإن وجدوا فمن الواجب الالتفاف حولهم خاصةً في أزمان الفتن، إذ الالتفاف حول العلماء الربانيين العاملين الصادقين ممن جُربوا في الفتن فثبتوا وما غيروا وبدلوا؛ عاملٌ معينٌ على عدم الزيغ والانحراف في وقت الفتن، فلا بد من الالتفاف حولهم بحضور حِلَقِهِم العلمية وزيارتهم والصدور عن رأيهم وعدم اتخاذ رأي أو اجتهاد أو موقف من غير الرجوع إليهم.

حادي عشر: حفظ اللسان في الفتن

يجب على كل مُكلَّف أن يكفَّ لسانه ويحفظه عن كل باطل، وفي جميع الأوقات والأحوال، بيد أنه يتأكد ذلك الحفظ إبَّان الفتنة، وحلول المحنة؛ ففيها تكثر الأقاويل، وتزداد شهوة الإشاعات والمبالغات والأباطيل، وعندها تكون الآذان مستعدة لاستقبال كل ما يُقال، وفي هذا تكمن الخطورة، فربَّ كلمة أشدُّ من وقع السيف أيام الفتنة.

فلذا؛ يجب على المسلمين قاطبة أن يكفُّوا ألسنتهم عن كل كلمة تزيد من وَهَج الفتنة.وليُعلم أن اللسان من أخطر ما خلق الله في جسم الإنسان، لذا يقول تعالى منبهًا المؤمنين: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)) [الإسراء: 53]، وقال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)) [ق: 18]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ.."(29)

فكفَّ اللسان وضبطه وحبسه هو أصل الخير كله، وأن مَنَ مَلَك لسانه، فقد ملك أمره، وأحكمه وضبطه(30).

ثاني عشر: اعتزال الفتنة والفِرار منها

فقد حثَّ الشرع الشريف على اجتناب المشاركة في الفتن، وكفِّ اليد عنها، والفِرار منها.

فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ"(31)

قال ابن الملقن: فيه فضل العزلة في أيام الفتن؛ لإحراز الدين؛ ولئلا تقع عقوبة فتعم، إلا أن يكون الإنسان ممن لَهُ قدرة عَلَى إزالة الفتنة، فإنه يجب عليه السعي في إزالتها، إما فرض عين، وإما فرض كفاية بحسب الحال والإمكان.(32)

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (سَتَكُونُ فِتَنٌ، القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً، أَوْ مَعَاذًا، فَلْيَعُذْ بِهِ)(33)

قال النووي: فيه بيان عظيم خطرها- الفتنة-  والحث على تجنبها والهرب منها ومن التثبث في شيء وأن شرها وفتنتها يكون على حسب التعلق بها(34).

وقد كان السلف الصالح يحذرون أيضًا من السعي وراء أي شيء يؤدي إلى الفتنة

فعَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: خَرَجْتُ وَأَنَا أُرِيدُ هَذَا الرَّجُلَ(35) فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ، فَقَالَ:

 أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَحْنَفُ؟، قَالَ: قُلْتُ: أُرِيدُ نَصْرَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- - يَعْنِي عَلِيًّا - قَالَ: فَقَالَ لِي: يَا أَحْنَفُ ارْجِعْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ) قَالَ فَقُلْتُ: أَوْ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: (إِنَّهُ قَدْ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ)(36)

ونحن نقول للمسلمين قاطبة وهم في ظل هذه الأزمات العصيبة: أبشروا وأمّلوا خيراً؛ فإن مع العسر يسراً، وإن الأمة وإن آلمها المخاض فقد قربت ولادة جيل النصر فيها.

ثالث عشر: الدعاء والتضرع لله تعالى

الضراعة إلى الله تعالى من أسباب كشف الغمة وتفريج الكربة؛ قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)) [الأنعام: 42، 43]، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)) [الأعراف: 94].

وعند الفتن تطيش العقول، وتحتار النفوس فلا تدري ماذا تعمل؟ وفي هذا الموقف يغفل كثير من الناس عن سلاح عظيم كان عُدَّةً للأنبياء والصالحين على مر الزمان، ألا وهو الدعاء، قال تعالى عن نبيه نوح: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)) [القمر: 10، 11] وقال عن نبيه ذي النون: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)) [الأنبياء: 87].

---

(1) البخاري(2467)، مسلم (2885)

(2) شرح النووي على مسلم (18/ 7)

(3) مسلم (144)

(4) شرح النووي على مسلم (2/ 171)

(5) تفسير ابن كثير (2/ 6)

(6) البخاري(4547)، مسلم (2665)

(7) ابن أبي شيبة(1407)، وابن أبي عاصم في السنة(98) وأحمد في المسند(3248) وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.وصححه الألباني في الصحيحة (1283)

(8) سبل النجاة من الفتنة (ص: 66)

(9) مسلم (2867)

(10) جامع البيان (7/ 70)

(11) أخرجه أحمد(17142)، وأبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه(42)، وانظر السلسلة الصحيحة(937)

(12) المراد بجماعة المسلمين هنا: الفرقة الناجية التي أمر الله - تعالى - بلزومها إذا وقعت الفرقة، وهي السواد الأعظم، الموافقون لما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم.المتمسكون بالكتاب وصحيح السنة بفهم سلف الأمة من الصحابة وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

(13) البخاري(7054)، مسلم (1849)

(14) من حديث أبي ثعلبة الخشني، ومن حديث ابن مسعود، ومن حديث ابن عمر، ومن حديث أبي صعصعة رضي الله عنهم، وانظر السلسلة الصحيحة (494)

(15) أبو داود (4263)، والبزار (2112)، والطبراني في "المعجم الكبير" 20/252 (598).وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (975)

 (فواهًا) معناه التلهف والتحسر، أي: واهًا لمن باشر الفتنة وسعى فيها.عون المعبود (11/ 231)

(16) تيسير الكريم الرحمن (ص: 190)

(17) البخاري (120)

(18) فتح الباري (1/ 216)

(19) مسلم في المقدمة بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْحَدِيثِ بِكُلِّ مَا سَمِعَ

(20) مسلم في المقدمة بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْحَدِيثِ بِكُلِّ مَا سَمِعَ

(21) مسلم (2948)

(22) شرح النووي على مسلم (18/ 88)

(23) فتح الباري لابن حجر (13/ 75)

(24) مسلم(115)

(25) البخاري(80)، مسلم (2671)

(26) تيسير الكريم الرحمن (ص: 190)

(27) صحيح البخاري (7062)

(28) البخاري(100)، مسلم (2673)

(29) البخاري(6475)، مسلم (47)

(30) جامع العلوم والحكم (2/813)

(31) البخاري(19)

(32) التوضيح لشرح الجامع الصحيح (2/ 566)

(33) البخاري(7081)، مسلم (2886)

(34) شرح النووي على مسلم (18/ 9)

(35) يَعْنِي: عَلِيًّا رضي الله عنه.

(36) البخاري(31)، مسلم (2888)

عدد المشاهدات 9156