سلسلة مقالات نظام الحكم في الإسلام - مناصحة ولاة الأمور

2010-09-17

جمال المراكبى

رأينا من قبل كيف نظمت الشريعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وجعلت أساسها قيام الحاكم نحو الرعية بما هو واجب عليه وما هو مأمور به من الحكم بشريعة الله ، والتزام منهج الشورى وإقرار العدل ، وكفالة حقوق الأفراد وحرياتهم ، وصيانتها من كل اعتداء ، وقيام الرعية بما هو واجب عليها من التزام طاعة أولى الأمر والصبر عليهم وعدم الخروج عليهم ما لم يأتوا بالكفر البواح الظاهر المعلوم بالضرورة من دين الله .

وقيام ولاة الأمور بواجباتهم حيال رعيتهم أمر من أمور الدين يثابون عليه ، ويعاقبون إن هم قصروا في شيء منه ، وقيام الرعية بواجبها نحو ولاة الأمر من قبيل الطاعة لله تعالى ، ومن هذا المنطلق الإيماني قررت نصوص الشريعة مبدأ المناصحة وأوجبته على جميع المسلمين حكاماً ومحكومين ، فعن تميم الدارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدين النصيحة - ثلاثاً - قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله عز وجل ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) .

وقد عد بعض العلماء هذا الحديث من الأحاديث التي عليها مدار الدين كله ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدين النصيحة ، فدل على أن النصيحة تشمل الدين كله ، فتشمل خصال الإسلام والإيمان والإحسان .

والنصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له ، فهي كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلاً (2) .

ولهذا فإن رسل الله عز وجل قد قاموا بواجب النصيحة تجاه دعوتهم، وتجاه أممهم.

قال نوح عليه السلام : " أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ  ..... " ( الأعراف: 62 ).

وقال هود عليه السلام : " أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ " ( الأعراف : 68 ) .

وقد وردت كلمة النصيحة بصيغة المفاعلة - المناصحة - وفى ذلك إشعار بأنها واجب على كل فرد تجاه المجموع . وحق لكل فرد من المجموع أيضاً .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط لكم ثلاثاً : يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولى الله أمركم  .. " الحديث (3) .

وقال " ثلاث لا يغل عليهن قلب امرىء مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمور ، ولزوم جماعة المسلمين " (4) .

ولما كانت النصيحة بهذه الدرجة من الأهمية ، جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمور التي تتم البيعة عليها .

فعن جرير بن عبد الله قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم .

وفى رواية : على السمع والطاعة ، فلقننى فيما استطعت والنصح لكل مسلم (5) .

والنصيحة لله عز وجل هي الإيمان به وتوحيده ونفى الولد والشريك عنه ، وتنزيهه عن كل نقص لا يليق به ، وإفراده بصفات الكمال والجلال ، والتزام أوامره واجتناب نواهيه ، والخوف من عذابه ، والطمع في رحمته ، والحب فيه والبغض فيه . وهذا هو جماع العبادة ، ولهذا روى في الحديث القدسي " أحب ما تعبدني به عبدي النصح لي " (6) .

والنصيحة لكتاب الله عز وجل هي : الإيمان بأنه كلام الله غير مخلوق ، والعمل على تلاوته، والرغبة في فهمه ، وإقامة حدوده .

والنصيحة للنبي صلى الله عليه وسلم بطاعته ومحبته ومحبة آله وصحبه وتعظيمه بتعظيم أمره ونهيه والعناية بسنته وسيرته واتباع نهجه وهديه .

والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم من أصول استقرار المجتمع المسلم ، وقيامه على أمر الله عز وجل ، وهى واجب على الحاكم والمحكوم .

فمناصحة الحاكم لرعيته تكون بالتزام شرع الله عز وجل فى حكمه ، وإقرار العدل ، ومنع الظلم ، والتزام منهج المشاورة عملاً ، وحماية حقوق الرعية ، والرفق بهم فى كل أمورهم ، وتولية من هو أهل للولاية عليهم ، والأصلح للقيام بحقهم .

وفى الصحيح " ما من عبد يسترعيه الله رعية ثم لم يحطها بنصيحة إلا لم يدخل الجنة ".

" ما من والٍ يلي رعية من المسلمين يموت وهو غاشٌ لهم إلا حرم الله عليه الجنة ".

وكذلك بانتقاء بطانة الخير من أهل الصلاح والتقوى، وفى المستدرك " من ولى من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ".

أما مناصحة الرعية لولاة الأمور فهي على مراتب :

1. مناصحة عند الاختيار : ومؤداها أن يختار المسلمون حاكمهم اختياراً حراً وفقاً لأحكام الشورى .

2. مناصحة طاعة : تحكمها قاعدة " إنما الطاعة في المعروف " .

3. مناصحة إرشاد : تقوم فيها الأمة بواجبها في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بالضوابط الشرعية وهذه المرتبة الناس فيها على درجات :

* فهناك البطانة التي تحيط بالحاكم من الوزراء والمستشارين والمقربين ، وهم أقدر الناس على نصحه والتأثير عليه ، وهؤلاء يقول فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان ، بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه ، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه ، والمعصوم من عصم الله تعالى " (7)

فهؤلاء إن نصح الحاكم في اختيارهم نصحوا له ، وإن أساء في اختيارهم كانوا سبباً في سخط الله عليه وسخط رعيته عليه ، والموفق من عصمه الله .

* وهناك العلماء الذين حملهم الله تعالى أمانة الدعوة والبيان والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وأخذ عليهم العهد بذلك ، وهؤلاء هم أئمة الناس في الإصلاح ، وأقدرهم على وعظ الحاكم ونصحه وفقاً للضوابط الشرعية ، وإنما الناس تبع لهم .

وفى الحديث " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " " سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله " (8).

وهؤلاء هم أهل الحل والعقد في الدولة الإسلامية ،وإن رأوا في ولاة الأمور اعوجاجاً قوموه بالنصح ، وإن رأوا فيهم سداداً ساعدوهم وعاونوهم ، وأمروا الناس بنصرتهم ومعاونتهم وطاعتهم في المعروف ، وإن رأوا كفراً بواحاً ظاهراً كانوا دعاة التغيير ، وقادوا الأمة إلى حظيرة الإيمان والإسلام .

والنصيحة في المجتمع المسلم لا تعنى التغيير والإهانة والتجريح والتشهير، وإنما تعنى الإصلاح، ولهذا فالأولى أن تكون في ثوب مقبول مع ستر المنصوح، وهكذا كان سلفنا الصالح إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سراً.

سئل ابن عباس عن أمر السلطان بالمعروف ونهيه عن المنكر فقال: إن كنت فاعلاً ففيما بينك وبينه (9).

وقيل لأسامة بن زيد : ألا تدخل على عثمان فتكلمه ؟ فقال : أترون أنى لا أكلمه إلا أُسمعكم ؟ والله لقد كلمته فيما بينى وبينه ، ما دون أن أفتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه (10) .

* وهناك عامة الناس ومناصحتهم مناصحة طاعة ومحبة ودعاء بالتوفيق والسداد .

وفى ذلك يقول بعض السلف: لو كان لي دعوة مستجابة لدعوتها لسلطان المسلمين، فإنها تصيب جميع المسلمين بالخير.

ولا يجوز لعامة الناس أن يخرجوا على ولاة الأمور ولا أن يعلنوا العصيان ابتداءً وإنما هم كما قلنا تبع لأهل الحل والعقد من العلماء، لا يسبقونهم بقول ولا بفعل، وإلا عمت الفوضى وشاعت الفتن.

والنصح لعامة المسلمين يكون بإرشادهم إلى مصالحهم ، وتعليمهم أمور دينهم ، وستر عوراتهم ، ونصرتهم في الحق ، وحب الخير لهم والشفقة عليهم ، ومجانبة الغش والحسد لهم، ورحمة الصغير وتوقير الكبير الخ .

وفى الحديث " من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يمس ويصبح ناصحاً لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين فليس منهم " (11).

وهذا أصل في إيجاب التعاون على البر والتقوى وحب الخير والنصح لجميع الناس ، ومن ينظر إلى واقع الأمم يرى الفارق واضحاً بين النظام الإسلامي وغيره من النظم التي يتباهى الساسة فيها بخبرتهم في الرياء والنفاق وخداع الجماهير والتأثير على الرأي العام بالفضائح وبكل الأساليب المشروعة وغير المشروعة حتى صارت تعريفاتهم للسياسة والسياسي مشهورة متداولة ولكن هذه هي السياسة في المجتمع المسلم ، سياسة المناصحة لا سياسة الكذب والخداع .

---------------------------

(1) أخرجه مسلم.

(2) جامع العلوم والحكم ص 296 بتحقيق الأحمدي أبو النور .

(3) مسلم.

(4) جزء من حديث أوله " نضر الله امراءاً .. " وقد رواه البزار بإسناد حسن عن أبى سعيد ، وروى عن جمع من الصحابة - راجع صحيح الترغيب (3) .

(5) متفق عليه .

(6) إسناده ضعيف . أحمد ( 5/254 ) ، قال الهيثمى ( 1/87 ) : فيه عبيد الله بن زحر عن على بن يزيد وكلاهما ضعيف .

(7) البخاري .

(8) ورد عن جمع من الصحابة - وانظر الصحيحة ( 491 ) .

(9) جامع العلوم والحكم ص 304 .

(10) مسلم.

(11) ضعيف : الطبراني في الأوسط والصغير . وله شواهد كثيرة لكنها ضعيفة جداً ، وانظر الصحيحة ( 309 - 312 ) .

عدد المشاهدات 10774