سلسلة مقالات نظام الحكم في الإسلام - الديمقراطية والنظام السياسي الإسلامي

2010-09-17

جمال المراكبى

سادت الفكرة الديمقراطية العالم، خاصة بعد انهيار الأنظمة الدكتاتورية، حتى أضحى الحكم الديمقراطي أمل كل الشعوب.

وقد سرت هذه الروح في أذهان أكثر المسلمين ، فظهرت الأفكار التي تدعو إلى تقليد الغرب في كل شيء ، وظهرت أفكار أخرى ترى أن الديمقراطية تجد أساسها في الإسلام ، فالإسلام هو الديمقراطية في أسمى وأرفع أوضاعها .

ولكن إلى أى حد تتشابه الديمقراطية مع نظام الإسلام السياسي ؟

وهل يصل هذا التشابه إلى حد التطابق، والقول بأن الإسلام هو الديمقراطية في أسمى أوضاعها ؟ أم أن أوجه الخلاف بين النظامين كثيرة لا يمكن تجاهلها ؟

الديمقراطية هى حكم الشعب صاحب السيادة بواسطة الشعب فهى ترمى إلى تملك السلطة بواسطة الشعب ، وتهدف إلى تحقيق المساواة القانونية بين الأفراد وإطلاق حرياتهم ، ولهذا فإن المذهب الفردي الحر هو أساس الديمقراطية فهل يتحقق النظام الإسلامي مع الديمقراطية في هذه الأسس ؟

والحقيقة أن الديمقراطية والنظام السياسي الإسلامي لا يتطابقان قد نجد هناك بعض أوجه الشبه بين النظامين، ولكننا لا نعدم أبداً أوجهاً للاختلاف.

الإسلام والديمقراطية ومبدأ سيادة الأمة:

مبدأ سيادة الأمة هو لب الديمقراطية وأساسها المتين والسيادة هى تلك السلطة العليا التي لا تضارعها سلطة أخرى فإذا كانت السيادة للأمة كانت لإرادتها تلك السلطة العليا ولما كانت الأمة في مجموعها يستحيل عليها ممارسة مظاهر السلطة والسيادة ، فإن أفراد الأمة يختارون نواباً ينوبون عنها في ممارسة مظاهر السيادة والسلطان عن طريق الانتخاب وتعبر الأمة عن إرادتها في صورة القانون ، ويمكن للأمة أن تصدر ما تشاء من قوانين ، ولا يحد من إرادة الأمة شيء .

وقد تأثر بعض المسلمين بهذا المبدأ وفُتِنُوا به ، ثم نظروا إلى النظام الإسلامي فوجدوا أن الأمة هى التي تختار حاكمها ، وتراقبه وتناصحه ، وتحاسبه ، وتملك وحدها عزله إن حاد عن الطريق السليم ، فالحاكم وكيل عن الأمة يستمد سلطانه منها ، أو هكذا ينبغى أن يكون الحاكم في المجتمع المسلم وانتهى هؤلاء إلى أن الأمة هى صاحبة السيادة في الدولة الإسلامية ، وأن الأمة هى مصدر السلطات ، وأن المسلمين هم أو من قرر هذه الحقيقة وعمل بها .

ولعل الذى دفع هؤلاء إلى هذه النتيجة هو نفي أن يكون الخليفة هو صاحب السيادة في الدولة الإسلامية وما يتبع ذلك من كون النظام السياسي الإسلامي نظاماً استبدادياً اوتوقراطياً ، وكذا نفي أن تكون السلطة في الدولة الإسلامية دينية أو بمعنى أخر ثيوقراطية ، وإنما هى سلطة مدنية مرجعها الأمة .

ودفعهم إلى ذلك أيضاً ما للأمة من سلطة واسعة في اختيار الخليفة، وأن إجماع الأمة حجة من الناحية الشرعية حيث عصم الله هذه الأمة من أن تجتمع على باطل أو ضلالة وفي الحديث " لا تجتمع أمتي على ضلالة " (1).

والأمة كذلك مسئولة عن إقامة الدين وشرائعه وأحكامه ولهذا فإن نصوص القرآن والسنة تتوجه بالخطاب لعموم المؤمنين المكلفين بإقامة هذه الأحكام.

ودفعهم إلى ذلك أيضاً تلك الجاذبية التي تتمتع بها الأنظمة الديمقراطية التي تقوم على مبدأ سيادة الأمة، أو السيادة الشعبية.

ولككنا لا يمكن أن نسلم بهذا القول ، فالأمة في النظام الإسلامي لا تملك هذه السلطة المطلقة التي تملكها الأمة في النظام الديمقراطي ، ولا تملك أن تصدر ما تشاء من قوانين لأنها مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية .

فليس للأمة أن تخالف نصاً قطعياً من نصوص الكتاب والسنة ، وحتى في الدائرة التي لا تحكمها النصوص لا يجوز للأمة أن تشرع ما تشاء من قوانين وإنما هى مقيدة بألا تخرج عن روح الشرع .

لذلك حرص معظم القائلين بهذا القول على أن ينصوا على أن سيادة الأمة في النظام الإسلامي مقيدة بما في نصوص الشرع ولكن هذا القيد يهدم مذهبهم من أساسه ، فالأمة لا يمكن أن تعد بحال صاحبة السيادة في الدولة مع اعتبار هذا القيد وذلك لأن تقيدها بنصوص الشرع يؤدى حتماً إلى أن السيادة تكون لأحكام الشرع الإسلامي، أى لله رب العالمين وليست للأمة كما يزعم هؤلاء .

ومن يرجع إلى ما كتبه علماء المسلمين قديماً في أصول الفقه في مبحث الحكم يعرف أن علماء المسلمين قد قرروا هذه الحقيقة وأجمعوا عليها .

إن نفي السيادة عن الأمة لا يعنى أن النظام السياسي الإسلامي نظام استبدادي ، لأن الحاكم مقيد بأحكام الشرع الإسلامي  فلا يجوز له الخروج عليها ، وقد أوجب الشرع على الأمة مراقبة الحكام ومناصحتهم ، بل وعزلهم إن خرجوا عن إطار الشرعية ، ورفض رفضاً باتاً مبدأ الطاعة في المعصية ، وهو لا يعنى كذلك أن النظام الإسلامي نظام ثيوقراطى وذلك لأن الحاكم في الدولة الإسلامية لا يحكم بوصفه نائباً عن الله ، أو بحق إلهى مباشر أو غير مباشر وإنما يحكم بوصفه وكيلاً عن الأمة التي  كلفها الله بإقامة شريعته وهو مقيد بأحكام الشرع الإسلامي لا يمكنه الخروج عليها وإلا عزلته الأمة وولت غيره .

إن مبدأ سيادة الأمة لا يتلاءم إلا مع نظام علماني يقصى الدين عن الدولة والسياسة ، ويخول للأمة أن تقرر ما تشاء مما يوافق مصالحها دون أن ترجع في ذلك لأحد ، أما النظام الإسلامي فهو لا يغفل دور الأمة في إدارة شئونها ، ولكنه لا يغفل أيضا القواعد والضوابط التي تحكم الأمة في تصرفاتها .

ويمكن تلخيص هذه القواعد على النحو التالى :

1. السيادة في الدولة الإسلامية لله تعالى متمثلة في أحكام شريعته الخالدة التي تعبد الناس بها .

2. الأمة مسئولة عن تنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية لأنها حاملة الأمانة والمخاطبة بأحكام الشريعة .

3. الأمة تختار الحاكم الذى ينوب عنها في تنفيذ أحكام الشريعة وسياسة الأمور الدنيوية على مقتضاها ، وذلك لأن الأمة مجتمعة لا تستطيع أن تقوم بهذه المهام .

4. الحاكم لا يمارس سلطاته نيابة عن الله تعالى ، وإنما نيابة عن الأمة ، ولذلك فللأمة الحق في مراقبته ومناصحته ومحاسبته وعزله إن اقتضى الأمر .

5. لا سيادة ولا وصاية لفرد من الأفراد ولا لطبقة من الطبقات على الأمة .

وبهذا يتضح لنا أن النظام السياسي الإسلامي  لا يتفق مع الديمقراطية في أدق خصائصها وأهم أسسها ، ولا يعنى هذا أن النظام الإسلامي  يفتقد مزايا الديمقراطية لأنه ما من ميزة أو فضيلة يأتى بها النظام الديمقراطي إلا ويتمتع بها النظام الإسلامي  على الوجه الأكمل ، ويتضح لنا هذا حين نقارن بين النظام الإسلامي  والديمقراطية من حيث إقرار الحقوق الفردية وإطلاق الحريات ، وقد سبق لنا الحديث عن كفالة الحقوق والحريات كمبدأ من المبادئ التي  يقوم عليها نظام الحكم الإسلامي  وبطبيعة الحال لن نكرر ما سبق أن أوردناه ، ولكننا نشير إشارات بسيطة لتتضح لنا هذه الحقيقة

من هذه الإشارات :

1. أن هذه الحقوق والحريات التي تتغنى بها الديمقراطية قد عرفها المسلمون منذ ما يقرب من خمسة عشر قرناً.

2. ولا يفوتنا أن الفكر البشرى قد تطرف في إقرار هذه الحقوق تطرفاً واضحاً ، ولا تزال آثار هذا التطرف واضحة في المجتمعات الديمقراطية ، بينما جاءت الشريعة الإسلامية بنظام متكامل فيه إقرار لهذه الحقوق والحريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، ووسائل حمايتها والحفاظ عليها في ثوب أخلاقي قشيب دونما إفراط أو تفريط .

3. وإذا كان الفكر الديمقراطي قد نجح في بلورة هذه الحقوق والنص عليها في إعلانات الحقوق ومقدمات الدساتير، فإن الإسلام قد تجاوز هذا الحد فعدها من الواجبات التي لا يجوز للفرد ولا للجماعة التنازل عنها أ, السماح بالنيل منها .

إن هذه الحقوق والحريات تستند مباشرة إلى الشرع الإسلامي فتستمد قوتها من قوته وخلودها من خلوده، وقدسيتها من قدسيته، فلا يملك أحد كائناً من كان المساس بها إلا إذ نال من شريعة الإسلام ذاتها.

إن هذه الحقوق لا يكتفي الإسلام بإقرارها من وجهة نظرية عامة بل يعضدها بما في تفصيلات الشريعة مما يتعلق بالحقوق ويقرر لها صفة الإلزام .

وخلاصة هذه النتائج أن الإسلام بإقراره للحقوق والحريات قد تجاوز إلى حد بعيد ما قررته الديمقراطية الليبرالية في العصر الحديث ، فما زالت هذه الأنظمة تخوض في بركة لا أخلاقية في إقرارها لهذه الحقوق ، حتى صار الشواذ يؤثرون على القرار السياسي في بعض هذه البلاد ، ويدعون للتمرد على الدين وهدم الأخلاق إلى حد بعيد موقف الإسلام من المذهب الفردي الحر : لاشك أن المذهب الفردي هو الوجه الاقتصادي للديمقراطية والإسلام لا يميل إلى هذه النزعة الفردية البحتة ن بل يهدف إلى تحقيق صالح الفرد والجماعة معاً .

فالملكية في الإسلام مصونة ، لا يملك أحد أن يعتدي عليها ولكن هذا الحق لا ينبغى أن يتجاوز به صاحبه الحدود المشروعة في الاكتساب والإنفاق ، لأن مجتمع المؤمنين يعلم يقيناً أن الملك لله وحده ، والإنسان مستخلف فيما حوله الله وإنها أمانة يحاسب عنها الإنسان ، ومن ثم فالإسلام لا يبيح الاحتكار ولا الاستغلال ، ولا أكل أموال الناس بالباطل ، ولا الربا ولا القمار قال تعالى : " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا " وقال " إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ " .

والشريعة توجب على المالك – المستخلف – ألا يتجاوز هذه الحدود الشرعية في الاكتساب ، وتوجب عليه ألا يتجاوزها في الإنفاق ، وتجعل للفقير حقاً معلوماً في مال الغنى ، وتفصيل ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام ، بينما الديمقراطية لا تكاد تعرف من ذلك شيئاً ، ولهذا يتخبط المشرع الوضعي يمينا ويساراً في تقديره وضبطه لهذه الحقوق .

نستخلص من ذلك أن النظام السياسي الإسلامي يختلف مع الديمقراطية اختلافاً بيناً من حيث الأساس والمبدأ ومن ثم يكون التجاوز أن يوصف النظام الإسلامي بأنه نظام ديمقراطي ، كما أن مدلول كلمة الشعب تختلف بين النظامين ، فالشعب في منظور الديمقراطية يرتبط بالفكرة القومية ، بينما هو في منظور الإسلام أوسع من ذلك بكثير بحيث يضم كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بالإضافة إلى أهل الذمة من غير المسلمين .

وإذا كنا قد قارنا بين الديمقراطية وبين النظام السياسي الإسلامي من حيث الأساس ، فإننا نجد صعوبة بالغة في المقارنة بينهما من حيث الشكل والتفصيلات الجزئية ، لأن النظام السياسي الإسلامي  قد ترك هذه التفصيلات لظروف الزمان والمكان ، بحيث تمارسها الأمة بالشكل الذى يحقق لها المصلحة .

ومع ذلك فإننا نستطيع أن نتلمس بعض أوجه الشبه من حيث الشكل بين النظامين ، فلا شك أن النظام النيابي هو أقرب أشكال الديمقراطية للنظام السياسي الإسلامي خاصة في شكله الرئاسي .

وكذلك فإن الشبه بين نظام الانتخاب وبين نظام البيعة عند المسلمين واضح.

وعلى كل حال فالنظام الإسلامي كما قلنا من قبل يتوخى المصلحة في كل ذلك، ولا مانع من الاستفادة من تجارب الآخرين في كل ما سكت عنه الشرع، ولا شك أن حديثنا السابق عن التعددية لأبلغ دليل على ذلك.

وبعد ذلك فهل تعتقد أيها المسلم أن النظام الإسلامي صورة من صور الديمقراطية ؟ وهل تعتقد أن حل ما نعانيه من أزمات يكمن في الاعتصام بالديمقراطية شكلاً وموضوعاً ؟ أم أننا في حاجة ماسة إلى الاعتصام بالله تعالى وبدينه وشرعه " وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ " ( الشورى 10 ).

---------------------------

(1) حسن . أخرجه ابن ماجه (3950) وغيره من حديث أنس مرفوعاً ، وفي سنده مقال ، وأخرجه ابن أبى عاصم في السنة ( رقم 85 ) بسند جيد عن أبى مسعود موقوفاً ، وكذا أخرجه الطبرانى ، وفي الباب عن ابن عمر وغيره وطرقه لا تخلو من مقال ، لكن يقوى بعضها بعضاً ، وانظر التلخيص ( 3/141) ، والصحيحة ( رقم 1331 ) ، والضعيفة (1510) ، والسنة لابن أبى عاصم ( رقم 80،82 – 85،92 ) .

عدد المشاهدات 11037