السنة في اللغة هي الطريقة ، حسنة كانت أو سيئة ، وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم - هي طريقته ومنهاجه وما دعا إلى التمسك به ، ولا شك في أنها واجبة الاتباع ، وأنها لا تعرف بمجرد العقل ، وإنما تُعلم بالنقل الثابت الصحيح ، ولهذا اتفقت كلمة الأمة على أن السنة ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة .
وصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم - نقلوا لنا الدين قرآنًا وسنة ، فنقلوا لنا منهاج النبي -صلى الله عليه وسلم - قولاً وعملاً ، بمعنى أنهم بينوه وحدثوا به ودعوا إليه وعملوا به وجاهدوا في سبيل اللَّه بنشره في ربوع الأرض ، فلما ظهرت البدع ، واختلفت الأمة وافترقت ، ظهر في الأمة من يدعو الناس إلى مناهج جديدة تخالف السنة في أمور ، وتوافقها في أمور ، فظهرت المقالات المبتدعة في الإرجاء والقدر والصفات ، وصار دعاة البدعة يعرضون مناهجهم ويفلسفونها ، ويقدمون عقولهم وأهواءهم على ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم - ، ويثيرون النقاش والجدل ، وقد رد علماء الأُمة المستمسكون بالسنة على أهل البدع على اختلاف أهوائهم ، ودعوا الأمة إلى التمسك بالسنة والعض عليها بالنواجذ عملاً بوصية النبي -صلى الله عليه وسلم - : (( إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة )) . وبقوله -صلى الله عليه وسلم - : (( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد )) أي : مردود على صاحبه ، لا يُقبل منه ، ولا يُتابع عليه .
ولا شك أن الابتداع في دين اللَّه عز وجل وسيلة لهدم الدين وتغيير معالمه ، وتلبيس على عوام المسلمين ، فنجد من يدعو للبدعة يعتقدها دينًا ، ومن يهاجم السنة ويتهكم عليها ، وينابذ أهلها العداء ظنًّا منه أنه يدافع عن الإسلام ويتقرب إلى اللَّه تعالى ، وهذا من أعظم الخطر على الإسلام وأهله .
والبدع العقائدية أعظم خطرًا على الأمة وعلى الملة من البدع العملية التعبدية ، فهي تخرج بأصحابها من إطار الفِرقة الناجية إلى إطار الفُرقة والهلكة والتوعد بالنار ، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم - : (( وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة )) . ثم بيّن أن الناجية من هذه الفرق من اجتمعوا على سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده ، فهم الجماعة وهم أهل السنة .
ولهذا أطلق علماء السلف لفظة : (( السنة )) على ما اتفق عليه الصحابة وتابعوهم بإحسان في مسائل الاعتقاد . قال الإمام أحمد في عقيدة أهل السنة والتي رواها عنه الإصطخري : هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروقها ، المعروفين بها ، المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا ، وأدركت من أدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها ، فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب ، أو طعن فيها ، أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج من الجماعة ، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق . اهـ .
وأهم المسائل التي نص عليها أئمة السنة في معتقداتهم وخالفوا بها أهل البدع هي : مسألة الإيمان ، وأنه قول وعمل ونية ، ويزيد وينقص ؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ؛ خلافًا للمرجئة الذين لا يعدون العمل من الإيمان وينفون عنه الزيادة والنقصان ، وللخوارج الذين يكفرون بالذنب .
ومسألة القدر وإثبات أن القدر خيره وشره من اللَّه عز وجل خلافًا للقدرية وللجبرية .
ومسألة إثبات الصفات للَّه عز وجل كما وردت في القرآن والسنة وإمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تمثيل ، خلافًا للمتكلمين أصحاب مناهج التحريف والتأويل الفاسد ، وللمشبهة الذين مثلوا صفات اللَّه عز وجل بصفات المخلوقين .
ومسألة القرآن وأنه كلام اللَّه عز وجل منه بدا ، وإليه يعود ، وإثبات صفة الكلام للَّه عز وجل ، خلافًا للمعتزلة والجهمية الذين ينفون صفة الكلام ويقولون : القرآن مخلوق ، وللأشاعرة الذين يقولون ببدعة الكلام النفسي والكلام اللفظي ، فيثبتون الأول وينفون الثاني عن اللَّه عز وجل ، فينتهي بهم إلى القول بخلق القرآن .
ومسائل الشفاعة والحوض وعذاب القبر ورؤية اللَّه عز وجل يوم القيامة ، خلافًا لأهل البدع الذين يقولون : إن خبر الآحاد لا تثبت به عقيدة ، ويزعمون أن هذه السنن لم تثبت بالنصوص المتواترة .
ومسألة فضائل الصحابة وأهل البيت ، وغيرها من المسائل عدها أهل السنة والجماعة أصولاً للسنة ، فمن خالف في واحدة منها منهج أهل السنة والجماعة ، خرج عن الجماعة ، ونُسب إلى البدعة والضلالة .
قال الإمام أحمد : أصول السنة عندنا : التمسك بما كان عليه أصحاب رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم - والاقتداء بهم وترك البدع ... إلى أن قال : ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقبلها ويؤمن بها لم يكن من أهلها : الإيمان بالقدر خيره وشره . ثم عدد أصول السنة وفَصَّلَها .
وقال سفيان بن عيينة : السنة عشرة ، فمن كُن فيه فقد استكمل السنة ، ومن ترك منها شيئًا فقد ترك السنة : إثبات القدر ، وتقديم أبي بكر وعمر ، والحوض ، والشفاعة ، والميزان ، والصراط ، والإيمان قول وعمل ، والقرآن كلام اللَّه ، وعذاب القبر ، والبعث يوم القيامة ، ولا تقطعوا بالشهادة على مسلم .
والنقول في هذا الباب كثيرة جدًّا ، وكلها تقطع بأن مذاهب أهل السنة والجماعة وأصولهم متواترة عنهم ، ينقلها علماؤهم جيلاً بعد جيل ، ومصنفاتهم تشهد بذلك ، ولهذا فسوف نحاول جاهدين إبراز هذه العقيدة من خلال مجلة التوحيد ، لسان حال أهل السنة والجماعة ، وقد أوردنا في عددنا الماضي قصيدة الإمام أبي بكر بن أبي داود في السنة التي يقول فيها :
تمسـك بحبــل اللَّه واتبــع الهدى
ولا تك بــدعيًّا لعلك تفلـــح
ودِنْ بكتـاب اللَّـه والسنـن التـي
أتت عن رسول اللَّه تنجو وتـربـح
وذلك تحت عنوان عقائد العلماء ، أو عقائد السلف . وجدير بالذكر أنه وقع سقط في ختام القصيدة لم نذكره في العدد الماضي ، وهو تعليق ناظمها بقوله :
( هذا قولي وقول أبي وقول أحمد بن حنبل وقول من أدركنا من أهل العلم ، وقول من لم ندرك ممن بلغنا قوله ، فمن قال علينا بخلاف ذلك فقد كذب ) . اهـ .
وأهل البدع لا يقفون مكتوفي الأيدي أمام هذا المنهج الواضح لأهل السنة والجماعة ، وإنما يشنعون عليهم ويسمونهم بغير اسمهم ويتطاولون عليهم ، ويزخرفون الباطل من القول ، وربما يدعي بعضهم أنه أحق باسم السنة منهم .
قال أبو حاتم الرازي : علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر ، وعلامة الزنادقة تسمية أهل الأثر حشوية ، يريدون إبطال الآثار عن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم - . وعلامة الجهمية تسميتهم أهل السنة : مشبهة . وعلامة القدرية أن يسموا أهل السنة : مجبرة . اهـ .
ويرحم اللَّه القائل :
يا سَائِلي عَنْ مَذْهَبِي وعَقيدَتِي
رُزِقَ الهُدى مَنْ لِلْهِدايةِ يَسْأَل
اسمَعْ كَلامَ مُحَقِّقٍ في قَولِه
لا يَنْثَني عَنهُ ولا يَتَبَدَّل
حُبُّ الصَّحابَةِ كُلُّهُمْ لي مَذْهَبٌ
وَمَوَدَّةُ القُرْبى بِها أَتَوَسّل
وَلِكُلِّهِمْ قَدْرٌ وَفَضْلٌ ساطِعٌ
لكِنَّما الصِّديقُ مِنْهُمْ أَفْضَل
وأُقِرُّ بِالقُرآنِ ما جاءَتْ بِهً
آياتُهُ فَهُوَ القَديمُ المُنْزَلُ
وجميعُ آياتِ الصِّفاتِ أُمِرُّها
حَقاً كما نَقَلَ الطِّرازُ الأَوَّلُ
وأَرُدُّ عُقْبَتَها إلى نُقَّالِها
وأصونُها عن كُلِّ ما يُتَخَيَّلُ
قُبْحاً لِمَنْ نَبَذَ الكِّتابَ وراءَهُ
وإذا اسْتَدَلَّ يقولُ قالَ الأخطَلُ
والمؤمنون يَرَوْنَ حقاً ربَّهُمْ
وإلى السَّماءِ بِغَيْرِ كَيْفٍ يَنْزِلُ
وأُقِرُ بالميزانِ والحَوضِ الذي
أَرجو بأنِّي مِنْهُ رَيّاً أَنْهَلُ
وكذا الصِّراطُ يُمَدُّ فوقَ جَهَنَّمٍ
فَمُوَحِّدٌ نَاجٍ وآخَرَ مُهْمِلُ
والنَّارُ يَصْلاها الشَّقيُّ بِحِكْمَةٍ
وكذا التَّقِيُّ إلى الجِنَانِ سَيَدْخُلُ
ولِكُلِّ حَيٍّ عاقلٍ في قَبرِهِ
عَمَلٌ يُقارِنُهُ هناك وَيُسْأَلُ
هذا اعتقادُ الشافِعيِّ ومالكٍ
وأبي حنيفةَ ثم أحمدَ يَنْقِلُ
فإِنِ اتَّبَعْتَ سبيلَهُمْ فَمُوَحِّدٌ
وإنِ ابْتَدَعْتَ فَما عَلَيْكَ مُعَوَّلُ
اللهم اعصمنا بدينك ، وبسنة نبيك من الاختلاف في الحق ، ومن اتباع الهوى ، ومن سبيل الضلالة ، ومن الزيغ والخصومات .
واللَّه الموفق و الهادي إلى سواء الصراط .
(1) التوسل هنا بالعمل الصالح ، وهو حبي ومودتي لآل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم - .