الأسرة ذلك البناء الرباني ‏

2010-12-02

صفوت نور الدين

الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه وبعد :‏

فإن الله جلت قدرته جعل المؤسسات التربوية التي يعهد إليها بتربية الإنسان في ‏منهج الإسلام تتمثل في مؤسستين اثنتين هما: الأسرة، والمسجد.‏

وقد جعل سبحانه الأسس التي تبنى عليها الأسرة أسسًا فطرية ، والأسس التي ‏يبنى عليها المسجد أسسًا شرعية ، وأيما مسلم نقل معه من المسجد الأسس الشرعية ‏إلى البيت سعد وأسعد البيت ، بل سعد به البيت ، وأيما عبد لم ينقل أسس ‏المساجد الشرعية إلى البيت فإنه لا يرى السعادة ، بل يشقى ، ويشقى به البيت ‏الذي يحيا فيه .‏

وبيان ذلك أن الأسس الفطرية هي التي يشترك فيها المؤمن والكافر ، والأسس ‏الشرعية هي التي بعث الله بها رسله وأنزل بها كتبه ؛ أي تلك الأعمال التي يُثاب ‏عليها فاعلها من الله سبحانه .‏

فالأسرة تتكون من زوج وزوجة ، ثم يصبحا أبًا وأمًّا لأبناء وحفدة ، فالرجل عندما ‏يكبر ولده ويبلغ مبلغ الرجال لا يرى غرابة ولا غضاضة في أن يطلب منه أن يختار ‏له فتاة يتزوجها ، بل قد يكون الأب هو الذي يبدأ في العرض عليه إذا وجده ‏متشاغلاً أو خجلاً ، بل ويستغرب منه التأخر في طلبه هذا ، وكذلك الفتاة عندما ‏تبلغ مبلغ النساء لا يتعجب الرجل ولا تتعجب زوجه من أن خاطبًا طرق بابهم ‏يريد الزواج من ابنتهم ؛ ذلك لأن هذا كله من الأمور الفطرية التي فطر الله الخلق ‏عليها : ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [ الروم : 30] .‏

وتلك الأسس الفطرية فيها الميل الفطري من الرجل للمرأة ، ومن المرأة للرجل لم ‏يأت بها الشرع إنما جاء الشرع بترويضها ، فأمر الرجال والنساء بغض الأبصار ، ‏وبيّن أن ذلك هو طريق حفظ الفروج : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا ‏فُرُوجَهُمْ ) [النور : 30]، وكذلك : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ‏وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ ) [ النور : 31] .‏

وأمر كذلك المرأة بالحجاب  ، ونهاها عن التعطر إذا خرجت من البيت ، ونهاها عن ‏الخضوع بالقول ، حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض ، كأن الشرع جاء بالتدابير ‏الواقية التي يحمي بها العبد من نفسه التي بين جنبيه أن تزين له السوء ، ومن ‏الشيطان الذي ينزغ في شهوته ، ثم أمر بالزواج تحصينًا للفرج وغضًّا للبصر ‏وتكوينًا للأسرة وبناءً لها .‏

بل إن الله سبحانه فطر الأم والأب على حب الأبناء ، لذا فإنه لم يوص بالإحسان ‏إليهم كما أوصى بالإحسان إلى الوالدين ؛ لأن حب الولد فطري وحب الوالد شرعي ‏‏، فإذا أنفق الرجل على ولده أو سهر عليه فهذه أمور فطرية ، والأم في ذلك أكثر ، ‏تلك بعض الأسس الفطرية التي بنى الله عليها الأسرة .‏

أما المساجد فكل أسسها شرعية ؛ فاتجاه القبلة في بناء المسجد : ( فَوَلِّ وَجْهَكَ ‏شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) [ البقرة : 144] ، ‏والدخول إليها يسبقه الوضوء : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ  فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ‏وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ) [المائدة : 6] ، بل والدخول إليها ‏بالرجل اليمني والخروج منها باليسرى ، والداخل لا يجلس حتى يركع ركعتين ، ‏وينادى على الناس للصلاة في أوقات خمس معلومة ، وللصلاة هيئة وعدد ركعات ‏معلومة .‏

ويوم الجمعة ينادى على الناس للصلاة ، فيحرم عليهم الاشتغال بالبيع والتجارة ‏‏، وسكوت المصلين عند الخطبة شرعي ، والاستماع والإنصات للإمام إذا قرأ في ‏الصلاة فرض لازم لكل المأمومين .‏

فهذه لمحة لبيان الأسس الفطرية للبيت ، والشرعية للمسجد ، فإذا جاء الرجل ‏إلى المسجد تعلم طريق الجنة في مرضاة رب العالمين ، بأداء الأمانات التي عليه ، ‏فيعرف أمانة الزوجة والولد ، ويعرف أن الرفق بهم مهمة شرعية جاء بها الشرع ‏الشريف ، ويتعلم آداب معاملة الزوجة وآداب تربية الولد ، فإذا رجع إلى بيته ‏عمل ذلك وامتثله فأسعد بدخوله البيت كله زوجة وولدًا ، عالمًا أنه ينال من الله ‏سبحانه الأجر على الرفق بالزوجة ، والإحسان إلى الولد، فالزوجة تسعد ، والله ‏يأجر ، والولد يسعد ، والله يأجر ، فسبحان الله رزقنا الحسنات ليسعد الخلق .‏

فإذا سألت الزوجة عن أفعاله وأخلاقه، أخبرها الزوج أن ذلك كله تعلمه في ‏المسجد، فإذا رأت سعادتها في وصايا المسجد أحبت المسجد قبل أن تعرفه، فإذا ‏أرادت أن تدخل المسجد تداركها الشرع بحديث: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) ‏‏.‏

وبحديث: ( إذا استأذنكم النساء إلى المساجد فلا تمنعوهن ).‏

فتحضر المسجد وتشهد به الصلوات ، وتستمع فيه المواعظ والدروس ، وتتعلم فيه ‏أخلاقًا وآدابًا ، فيكون من ذلك أن تعلم واجبها نحو زوجها ؛ إذا نظر إليها ‏زوجها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا أقسم عليها أبراته ، وإذا غاب عنها ‏حفظته في نفسها وماله ، بل وعياله ، وعلمت أنها إن ماتت وزوجها عنها راض ‏دخلت الجنة ، وأنها إن باتت وزوجها عنها غضبان باتت الملائكة تلعنها حتى ‏تصبح .‏

فبذلك يسعد الزوج مع الزوجة التي تعلمت ذلك وعملت به ، ويتربى الولد على بر ‏الوالدين والإحسان والطاعة ، والرضا والقناعة ، كل ذلك حتى تثاب الزوجة من الله ‏ويُثاب الولد من ربه ، فكأن الله يثيب الزوجة إذا أسعدت زوجها ، والولد إذا بر ‏بوالديه ، ويكافئ الزوج إذا أحسن إلى زوجته ، ويثيب الوالدين إذا أحسنا تربية ‏الولد .‏

وهكذا نرى أن المساجد أسسها شرعية ، والأسر أسسها فطرية ، فمن نقل الأسس ‏الشرعية من المساجد إلى البيوت أدخل السعادة على البيوت وساكنيها ، ثم ينقلب ‏إلى ربه يوم القيامة فيجد ذلك الخير في ميزانه عند الله يوم القيامة فيدخل الجنة ، ‏فيسعد في الدارين سعادتين ؛ سعادة دنيا بفطرة يشبعها كما أمر الله بشرعه، وفي ‏الآخرة لأنه عمل بشرع الله كما أمره .‏

فاللهَ اللهَ في البيوت ، واللهَ اللهَ في المساجد ، عملاً بشرع الله والتزامًا بدينه .‏

والله من وراء القصد .‏

عدد المشاهدات 10127