الحمد لله الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى خلق الأنفس وهداها بالوحي الذي أنزله على أنبيائه ورسله . والصلاة والسلام على من كان القرآن الكريم له خلقًا ومنهجا فجاءت الآيات العشر الأولى من سورة ( المؤمنون ) بيانا لذلك الخلق الكريم … وبعد :
فالله جعل الجنة دار كرامته فلما خلقها الله نطقت : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون ) [ المؤمنون : 1] .
والإيمان باتفاق أهل السنة والجماعة قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
ويقول سفيان الثوري : لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي لطار اشتياقًا إلى الجنة وهربًا من النار .
فالأعمال عند أهل السنة شرط في كمال الإيمان بالنظر إلى ما عند الله. أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم فإن كان الفعل لا يدل على الكفر كالفسق ، فمن أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره ومن نفى عنه الإيمان فبالنظر إلى كماله ومن أطلق عليه الكفر فبالنظر إلى أنه فَعَل فِعْل الكافر ، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى حقيقته ( الفتح ج6ص61) .
وقيل لابن عيينة : إن قومًا يقولون الإيمان كلام ، فقال : كان هذا قبل أن تنزل الأحكام فأمر الناس أن يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا دماءهم وأموالهم ، فلما علم الله صدقهم أمرهم بالصلاة ففعلوا ، ولو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار . فذكر الأركان إلى أن قال : فلما علم الله ما تتابع عليهم من الفرائض وقبولهم قال : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) [ المائدة : 3] ، فمن ترك شيئًا من ذلك كسلاً أو مجونًا أدبناه عليه وكان ناقص الإيمان ومن تركها جاحدًا كان كافرًا ( الفتح ج1 ص128] ، أما النص كاملاً ففي ( حلية الأولياء) (ج7 ص295) .
هكذا نعلم أن الإيمان يدخل فيه العمل كجزء منه ، فمن استزاد من الصالحات ازداد إيمانًا و : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون ) ، فإن فلاح المؤمن في الآخرة أمر معروف جلي لا يمارى فيه أحد ، لأن المؤمن يعمل بإيمانه لتثقل موازينه فهو في عيشة راضية فيفلح عطاءً من ربه في جنة عرضها السموات والأرض هي دار الكرامة وهي مثوى المؤمنين .
لكن إشارتنا اليوم ليست للفلاح الأخروي للعلم به إنما نقصد الفلاح الدنيوي الذي هو محور حركة الناس في الدنيا وقطب حياتهم وفيه يتصارعون إلا من رحم ربي فنقول وفي الدنيا أيضًا : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون ) ، وذلك أمر يدركه من تتبع نصوص الشرع الشريف في أي باب من أبوابه . ويمكنني أن أضرب الأمثلة اليسيرة التي بعد من أمثالها الألوف قبل عشرات ومئات الألوف ، بل أكثر من ذلك كثيرًا .
ففي باب الصحة العامة يتحدث النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( اتقوا الملاعن الثلاث : البراز في الموارد - أي : موارد الماء - وقارعة الطريق والظل ) ( أخرجه أبو داود عن معاذ بن جبل ) والعمل بذلك الحديث يقضي على أخطر الأمراض المتوطنة قضاء كاملاً ويذهب أكثر المضاعفات ضررًا بالإنسان وفتكًا بجسمه ، وكذلك يوفر له ماله ووقته وعافيته بما لا يقدر بالمال لأهميته وعظمته . وكذلك في نفس الباب حديث : ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وشأنه كله ) ، ( البخاري عن عائشة ) ، وأن ذلك يعني أن اليد التي ترفع الطعام لا تباشر الغائط فينجو المسلم من كثير من الطفيليات الفتاكة .
ومن باب الصحة أيضًا حديث : ( ما ملأ آدمي وعاءً شر من بطنه ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه ) ( الترمذي من حديث المقدام بن معدي كرب ) .
والعمل بهذا الحديث وقاية من جملة من أمراض الامتلاء وهي أمراض خطيرة فتاكة .
وفي باب أمن الناس في مجتمعاتهم حديث : ( ثلاث أقسم عليهن - منها - ما ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزًا ) ( الترمذي عن أبي كبشة ) ، وفي مسلم عن أبي هريرة : ( ما زاد الله عبد بعفو إلا عزًا ) .
فلو آمن الناس بذلك لكان المظلوم يرجو العز بصبره ، ولكان الظالم يخشى الذل إن استمر في ظلمه وبذلك يرجع كل ظالم عن ظلمه فيسترضى من ظلمه ، أما المظلوم فيرجو عند الله الثواب فيصبر الصبر الجميل ، فإن كان من أهل القدرة عفا وأصلح ليقع أجره على الله : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) [ الشورى : 40] ، وبذلك ترى الناس في سعادة وأمن لا يقدر بثمن ولا يوزن بمال فضلاً عن عائد هائل في الأموال من تلك التي تنفق في هذه الظلامات فيبقى الناس بالإيمان سعداء آمنين وادعين ، وتخلوا مساحات المحاكم ومجالس الخصومات وتفض سريعًا كل المنازعات ويتحقق الأمن في يسر وسهولة فلا ينفق الناس فيه وقتًا طويلاً ولا جهدًا بالغًا وكل ذلك لإيمانهم بأن الله يعز المظلوم إذا صبر ويذل الظالم إذا تمادى فلم يرجع .
وفي باب التكافل حديث : ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) متفق عليه عن عائشة وابن عمر ، وحديث من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له .
قال : فذكر أصنافًا من المال حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل .
ويطول استعراض ذلك ولا ينتهي وخلاصة ذلك في قوله تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون ) فالإيمان أعظم رأس مال والحرص عليه أعظم استثمار، لذلك كان الواجب على السلطان أن يحرص عليه في نفسه وأمته والرجل أن يحرص عليه في نفسه وبيته وأهله. ونحرص أن تدار الأسواق بالإيمان وأن تساس الزوجات بالإيمان وأن تسوى الخصومات بالإيمان وأن تحكم الزراعات وتنضبط الصناعات وتتهذب الوظائف والأعمال بالإيمان ، وذلك هو الفوز العظيم ويبقى شعار الأمة : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون ) .
والله من وراء القصد .