زواج السر خدن ... والزواج العرفي علن ‏

2010-12-02

صفوت نور الدين

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه وبعد:‏

فإن الشرع الحنيف جاء بحفظ الدين والعقل والمال والعرض والنفس ، فحفظ ‏العرض من مقاصد الشرع الشريف ، وإن من أهم وسائل الشرع لحفظ العرض ‏والنسل : تشريع الزواج ، لذلك وضع الشرع للزواج أحكامًا مفصلة لا تزال هي ‏العاملة في بيوت المسلمين إلى اليوم ، وإن محاولة الخروج عنها سبب في مخاطر لا ‏يحتملها الناس ، بل وعودة إلى الجاهلية بظلامها وانتكاسة إلى حياة الحيوان في ‏الغابات ، بل أضل ، نعوذ بالله من ذلك .‏

والناظر في كتب الفقه يجدها قد فصلت تلك الأحكام تفصيلاً ، وجاء العمل بها ‏منقولاً نقلاً كاملاً بالنص ونقلاً واضحًا مفصلاً بالتطبيق والعمل ، ولا تزال القوانين ‏العاملة في بلاد المسلمين المنظمة لأحكام الزواج والطلاق والميراث وما يتعلق بها ‏مستمدة من الشريعة الإسلامية ، تعتمد أقوال الفقهاء وتختار من بينها ، فكلما تم ‏تغيير في القانون كان على القائمين بصياغته مراعاة استمداد ذلك من أقوال فقهاء ‏المسلمين .‏

ولكن قد يميل المشرع عند صياغة القانون إلى أن يأخذ بقول فقهي مرجوح ويترك ‏القول الراجح ، إما لأنه يلتزم مذهبًا ، مثل نكاح المرأة بغير ولي (2) ، مع أن ‏الأحاديث قد صحت، إن لم نقل تواترت في : ( لا نكاح إلا بولي ) ، فالحديث ‏مروي عن أبي موسى الأشعري وابن عباس وجابر وأبي هريرة وعائشة وعمران بن ‏حصين وأنس بن مالك ، والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة عمر بن ‏الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وأبي هريرة ، وقال به من فقهاء ‏التابعين سعيد بن المسيب والحسن البصري وشريح وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد ‏العزيز ، وبه قال سفيان الثوري والأوزاعي وعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد ‏وإسحاق ، وهو المفهوم من قوله تعالى : ( فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا ‏تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ) [ البقرة : 232] .‏

قال القرطبي : في الآية دليل على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي ؛ لأن أخت معقل ‏كانت ثيبًا ، ولو كان الأمر إليها لزوجت نفسها ، ولم تحتج إلى وليها ، أو يكون ‏ترك القول الراجح لأمر آخر ، مثل قانون الوصية الواجبة الذي راعى الأحفاد عند ‏موت الآباء قبل الأجداد ، فجعل لهم ميراثًا ، ومستنده عند المشرعين قول فقهي ‏مرجوح .‏

ولما كان الزواج والطلاق والميراث من أمور القضاء ، وإنما الحاجة فيها للفتوى تكون ‏مستندًا للقضاء ، لذا كان على المفتي أن يراعي موافقة القانون المأخوذ من الشريعة ‏الإسلامية ولو كان مرجوحًا ، عند الإفتاء في مسألة من مسائل القضاء ، ذلك لأن ‏الخصم عندما لا يرضى تلك الفتوى فإنه يلجأ للقضاء ، وحسمًا للفوضى ، حيث إن ‏ذلك القول لم يخرج عن أقوال المسلمين .‏

هذا ، أما من خرج عن الالتزام بما أخذ به القانون وتراضى مع خصومه على ‏مخالفة القانون، فإن الفتوى في حقه لا تكون إلا بالراجح الذي قام عليه الدليل .‏

أعني بذلك أن من لم يعقد الزواج على الطريقة الرسمية ؛ أي لم يسجله بطريق ‏المأذون الشرعي في المحكمة ، وارتضى بالزواج العرفي ، فإننا نقول له : إن ‏التسجيل الرسمي من المباحات التي إذا ألزم بها ولي الأمر فصارت ملزمة ‏ومخالفتها حرام شرعًا ، هذه واحدة ، أما الثانية : فإننا نفتيه بأن الزواج لا يصح ‏إلا بالولي ، بالترتيب الذي جاء به الشرع في أحكامه مع التزامه سائر الأحكام ‏الشرعية الأخرى من الإشهار والإشهاد والصداق وغير ذلك.‏

لذا ينبغي أن نعلم أن الزواج بالطريق الرسمي فيه الإشهار والتسجيل والشهود ، ‏وبالطريق العرفي لابد من الالتزام بالصحيح في الشرع من الولي والإشهار وعدم ‏التواطؤ على الكتمان.‏

أخرج الترمذي وابن ماجه في ( سننه ) عن محمد بن حاطب الجمحي قال : قال ‏رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( فصل ما بين الحرام والحلال الدف والصوت ) . ‏

وأخرج الترمذي وابن ماجه عن عائشة ، وأخرج أحمد وابن حبان عن الزبير أن ‏النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أعلنوا النكاح ) .‏

قال البغوي في ( شرح السنة ) : الصوت معناه إعلان النكاح واضطراب الصوت به، ‏والذكر في الناس ، كما يقال : فلان ذهب صوته في الناس ، وقال أيضًا : وضرب ‏الدف في العرس والختان رخصة .‏

قال في ( المرقاة ) : ( أعلنوا هذا النكاح ) ؛ أي : بالبينة ، فالأمر للوجوب أو ‏بالإظهار والإشهار ، فالأمر للاستحباب ، ثم قال : فالتحقيق أنه لا خلاف في ‏اشتراط الإعلان ، وإنما الخلاف بعد ذلك في أن الإعلان المشروط هل يحصل ‏بالإشهاد حتى لا يضره بعده توصيته للشهود بالكتمان أو لا يحصل بمجرد ‏الإشهاد حتى يضره التوصية بالكتمان فيكون غير مشهر إذا أوصى بالكتمان .‏

ثم قال : فالحاصل أن شرط الإشهاد يحصل في ضمنه شرط الإعلان ، فكل إشهاد ‏إعلان ، ولا ينعكس ، كما لو أعلنوا بحضرة صبيان أو عبيد ، ثم قال : المراد ‏الترغيب إلى إعلان أمر النكاح بحيث لا يخفى على الأباعد ، فالسنة إعلان النكاح ‏بضرب الدف وأصوات الحاضرين بالتهنئة أو النغمة في إنشاد الشعر المباح .‏

قال المباركفوري في  ( تحفة الأحوذي ) قلت : الظاهر عندي - والله تعالى أعلم - أن ‏المراد بالصوت هاهنا الغناء المباح ، فإن الغناء المباح بالدف جائز في العرس ، يدل ‏عليه حديث الربيع بنت معوذ عند البخاري ، وفيه : فجعلت جويريات لنا ‏يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر . ‏

قال المهلب : في هذا الحديث إعلان النكاح بالدف والغناء المباح . ( انتهى ) .‏

وأخرج الطبراني من حديث السائب بن يزيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل له ‏‏: أترخص للناس في هذا - أي اللهو - ؟ قال : ( نعم ، إنه نكاح لا سفاح ، أشيدوا ‏بالنكاح ) .‏

وقال أيضًا : قال الحافظ : الأحاديث القوية - أي في ضرب الدف - فيها الإذن في ‏ذلك للنساء ، فلا يلتحق بهن الرجال لعموم النهي عن التشبه بهن . ( انتهى ) .‏

قلت - القائل المباركفوري - وكذلك الغناء المباح في العرس مختص بالنساء ، فلا ‏يجوز للرجال .‏

وفي ( الموطأ ) أن عمر بن الخطاب أُتي بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة ، فقال ‏‏: هذا نكاح سر ولا أجيزه .‏

وذكر ابن عبد البر عن الحسن أن رجلاً تزوج امرأة فأسر ذلك ، فكان يختلف إليها ‏في منزلها، فرآه جار لها يدخل عليها ، فقذفه بها ، فخاصمه إلى عمر بن ‏الخطاب ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هذا كان يدخل على جارتي ولا أعلمه تزوجها ‏‏، فقال له : قد تزوجت امرأة على شيء دون فأخفيت ذلك ، قال : فمن شهدكم ؟ ‏قال : أشهدنا بعض أهلنا ، قال : فدرأ الحد عن قاذفه ، وقال : أعلنوا هذا النكاح ‏‏، وحصنوا هذه الفروج !‏

وروي عن طاوس قال : أتي عمر بامرأة قد حملت من رجل ، فقالت : تزوجني ‏فلان ، فقال: إني تزوجتها بشهادة من أمي وأختي ، ففرق بينهما ودرأ عنهما ‏الحد ، وقال : لا نكاح إلا بولى .‏

وعن عروة بن الزبير قال : لا يصلح نكاح السر ، وقال نافع : ليس في الإسلام نكاح ‏سر .‏

وقال عبد الله بن عتبة : شر النكاح نكاح السر ، قال أبو عمر : نكاح السر عند ‏مالك وأصحابه ؛ أن يستكتم الشهود ، أو يكون عليه من الشهود رجل وامرأتان ، ‏ونحو ذلك مما يقصد به إلى التستر وترك الإعلان .‏

وعن مالك قال : لو تزوج ببينة (3) وأمرهم أن يكتموا ذلك لم يجز النكاح ، وإن ‏تزوج بغير بينة على غير استسرار جاز واستشهد فيها يستقبلان ، وعن مالك في ‏الرجل يتزوج المرأة بشهادة رجلين يستكتهما قال : يفرق بينهما بتطليقة ، ولا ‏يجوز النكاح ولها صداقها إن كان أصابها ، ولا يعاقب الشاهدان إن كان جهلا ذلك ‏‏، وإن كانا أتيا ذلك بمعرفة أن ذلك لا يصلح عوقبا .‏

وفي ( مسند ) أحمد عن أبي حسن المازني - تميم بن عمرو ، بدري شهد العقبة - ‏أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكره نكاح السر حتى يُضرب بدف ، ويُقال : ‏أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم .‏

وبعد فقد نقلت هذا من أقوال أهل العلم لأبين قولهم في إعلان النكاح ، ومعلوم أن ‏التسجيل في المحاكم أمر حادث في العصور المتأخرة ؛ أي أن كل الزواج سابقًا - ‏على مر العصور - كان هو المسمى اليوم بالزواج العرفي ، إذ لم يكن هناك زواج ‏رسمي يسجل في المحاكم كحال الناس اليوم .‏

لكن نبتت نابتة سوء أفسدت الأعراض وأجهضت الحوامل ، بل ووقع من ورائها ‏سفك الدماء إزالة للعار ، وإنما ذلك لأنهم سموا ما تتفق عليه المرأة مع رجل ، وقد ‏يكتبان بينهما ورقة ويحضران شاهدين ، ثم يوصونهما بالكتمان ويقولون : زواج ‏عرفي !!‏

والحق أن هذا خدن ؛ لخلوه من الولي ، ولتواطؤ أصحابه على الكتمان وعدم ‏الإشهار وضرب الدف .‏

لذا فإنه يجب على كل مؤمن غيور أن ينبه الناس جميعًا إلى أن الزواج العرفي لابد ‏فيه من الإعلان وضرب الدف ، أما الزواج السري الذي يتواطئون فيه على الكتمان ‏فهو حرام ، لا ينبغي إقراره في المسلمين ، فهو صورة من زنا الجاهلية ، ولا حول ‏ولا قوة إلا بالله .‏

وليتق الله كل من يحاول أن يسرق من كلام الفقهاء وشواذ الأقوال والآراء ما ‏يصحح به مثل هذا الزواج ، وإلا فعليه إثم كل فرج استبيح ، وكل حمل أجهض ، ‏وليعلم أن الشرع جاء بحفظ الأعراض ، وجعل الأموال ، بل والدماء فداءً للأعراض ‏‏، والله أعلم .‏

‏والله من وراء القصد .‏

 

‏(1) الخدن : اتفاق سر بين رجل وامرأة على المعاشرة ، وقد كان متعارفًا عليه في ‏الجاهلية ، فلما جاء الإسلام قضى عليه بالتحريم ، وكانوا في الجاهلية يرون ‏أن الزنا : أن لا يتورع من يعاشر ، والخدن : ألا يزني إلا بواحدة وتزني به .‏

‏(2)  والولاية ترتيب شرعي وليست اختيارًا عرفيًا ، فالمرأة الحرة - غير الأمة ‏‏- الأحق بتزويجها أبوها بكرًا كانت أو ثيبًا ، فإن لم يكن الأب ولها ولد ‏فولدها ، فإن لم يكن فالأخ الشقيق ، ثم الأخ لأب ، ثم الأقرب والأقرب من ‏عصبتها ، كالميراث ، فإن لم يكن لها أولياء فالسلطان أو نائبه ، فإن زوج ‏الحاكم أو الولي البعيد مع وجود ولي أقرب منهما نسبًا لم يصح النكاح .‏

(3)‏ البينة : الشهود . ‏

عدد المشاهدات 10216