بين ربا الجاهلية وربا البنوك

2010-12-04

صفوت نور الدين

الحمد للَّه رب العالمين ، أتم النعمة ، وأكمل الدين ، وأوضح للناس سبلهم التي عليها يسلكون، فأنزل كتابـًا حفظه بقدرته ، وبينه بوحيه ، أجمل فيه الحق وفصله ، فما أجمل في موضع؛ فصله اللَّه سبحانه في مواضع ، لكن من الناس من يُلَبِّسون على الخلق فيرتكبون المحظور الذي حرمه رب العزة سبحانه في قوله : {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ... } [ آل عمران : 7 ] .

هذا ، وإن أوضح قواعد الإسلام حرمة الربا ؛ لقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } [البقرة : 278، 279 ]   فترى من في قلوبهم زيغ يتبعون المتشابه ، فيقولون : إنما حرم اللَّه سبحانه الربا أضعافـًا مضاعفة لقوله في سورة (( آل عمران )) : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [آل عمران : 130، 131 ] ، وإنما ذلك لأن العرب كانوا إذا أجلوا الدين جعلوا الزيادة مضاعفة لا كما يتوهم بعضهم جعلوا الأصل مضاعفـًا ، فبمرور الأعوام يكون الربا أضعافـًا لكل عام ضعف ، فإذا جعلوا في كل مائة عشرة ، فإنها بعد عام آخر تصبح عشرين ، ثم ثلاثين .. وهكذا - وليس أن تكون المائة مائتين ، ثم ثلاثمائة في كل عام ضعفـًا لأصل المال - وهذا عين الربا الذي تقوم به البنوك الربوية اليوم .

وإن المجامع الفقهية المعاصرة قررت بالإجماع حرمة الربا الصادر من البنوك الربوية، ومن أكبرها وأقدمها مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف بمصر ، والذي انعقد مؤتمره الأول في سنة 1384 هـ بحضور جمع كبير من علماء أجلاء من كل العالم الإسلامي ، وقد جاء في قراراته :

إن السبيل لمراعاة المصالح ومواجهة الحوادث المتجددة هي أن يتخير من أحكام المذاهب الفقهية ما يفي بذلك ، فإن لم يكن في أحكامها ما يفي به فالاجتهاد الجماعي المذهبي ، فإن لم يف كان الاجتهاد الجماعي المطلق ، وينظم المجمع وسائل الوصول إلى الاجتهاد الجماعي بنوعيه ليؤخذ به عند الحاجة .

الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالاستهلاكي أو الإنتاجي.

الإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرم كذلك، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة.

فتدبر أيها القارئ الكريم هذه الفقرة التي جاءت في قرارات المجمع منذ ستة وثلاثين عامـًا، فهي أساس عمل المجمع.

وفي سنة 1385 هـ عقد المجمع مؤتمره الثاني بحضور مئات العلماء من جميع بلدان المسلمين، وجاء في قراراته ما يلي:

أ- الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي ؛ لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين .

ب- كثير الربا وقليلة حرام ، كما يشير إلى ذلك الفهم الصحيح في قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً  .

ج- الإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرم كذلك، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة(1). اهـ . من قرارات مجمع البحوث الإسلامية.

هذا ، وقد لمست إن بعض الكُتَّاب والواعظين تخيلوا صورة لربا الجاهلية ، ثم حدثوا الناس بها ، حتى ظن بعض من سمعهم أن ذلك هو حقيقة الواقع ، حيث زعموا أن الربا الذي كان محرمـًا في الجاهلية إنما هو ربا اقتراض الفقراء من الأغنياء ، وأنهم كانوا يقترضون لينفقوا على مطعمهم وملبسهم وحاجاتهم اليومية ، ورتبوا على ذلك أن الربا في القروض الإنتاجية والذي يكون الطرف المقترض فيه غنيـًّا ليس هو الربا المحرم . وهذا كلام يخالف الشرع في حكمه ، والواقع في وضعه ، وليس له من مستند تاريخي ولا من تدبير عقلي اقتصادي .

وفي ذلك نتدبر أن العرب في الجاهلية لم تكن حاجاتهم الأساسية بالتي تعجز عنها نفقة المحسنين منهم ، وذلك للأسباب الآتية :

أ أن حاجة الإنسان في ملبسه ( إزار ) ، فإن زاد ( فرداء مع الإزار ) ، ولم يكن لكلهم إزار ورداء ، فضلاً عن أن يكون له ملبوس على بدنه ، وآخر محفوظ في بيته ، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : ((أَوَ لكلكم ثوبان )) .

ب أن اشتهار العرب بالبذل والكرم والعطاء يأبى أن ينسجم في فهمه مع وجود الفقراء والمحتاجين مجاورين لأصحاب الأموال من المرابين ولا يطعمونهم ، فإن العرب كانت تفخر بإطعام الطير ، فكيف لا تُطعم الإنسان ؟!

ج علمنا بنص خطبة حجة الوداع أن من المرابين في الجاهلية ( العباس بن عبد المطلب )، حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته: (( ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله، وأول ربا ابدأ به ربا عمي العباس )). والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصف العباس هذا بما أخرجه أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (( هذا العباس بن عبد المطلب أجود قريش كفـًّا وأوصلها )). والحديث صححه الشيخ أحمد شاكر، وقد جاء الحديث في (( المستدرك )) من عدة طرق.

ومعلوم أن العباس كان غنيـًّا ذا مال وفير ، حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - طالبه بأن يفدي نفسه يوم بدر ويدفع فداء ابني إخوته عقيل ونوفل ، ويفدي حليفه عتبة بن عمر ، ولم يحسب من ذلك عشرين أوقية كانت معه أخذها منه المسلمون في المعركة ، فقدم فداء أربعة يوم بدر ، فكان العباس ذا مال ، وكان صاحب جود وصلة ، وكان يعامل الناس بالربا في الجاهلية .

د أن أصحاب رءوس الأموال يحرصون عليها وعلى تنميتها ، فإن أقرضوا المعدمين بربا عجز عن السداد ولا بد ، فكيف يضاعف عليه عامـًا بعد عام وهو مفلس ، وذلك يعني أن تضيع أموال أصحاب رءوس الأموال ، وهذا ما يعرفه الاقتصاديون أنه لا يتناسب مع انتظام الأسواق ؛ لأن الفقير مفلس بوضعه ، وصاحب رأس المال يجتهد في اختيار المكان الذي يضع فيه ماله خوفـًا من الخسارة ، فضلاً عن الإفلاس ، وطمعـًا في الربح ، فلا يقرض صاحب المال ، إلا أن يأخذ الضمان الكافي الذي يحقق له عدم ضياع ماله ، وهذا ما تعمله البنوك اليوم ، وهو من بدهيات الاقتصاديين ، فكيف نتصور أن القروض الربوية في الجاهلية كانت للفقراء المعدمين .

هـ أن الأموال التي كانت في يد الناس من قريش كانوا يرتادون بها الأسواق ليتاجروا بها ، ولكن ليس كل صاحب مال يجد عنده المقدرة في الاتجار بالمال ؛ لذا فإنه يعهد به إلى غيره ليضارب له فيه ، وإن قصة خديجة - رضي اللَّه عنها - وقصة خروج النبي- صلى الله عليه وسلم - بمالها مشهورة ومعلومة ، فكان التجار يخرجون بأموال الناس يتجرون فيها ، وقصة تجارة أبي سفيان التي كانت سببـًا في غزوة بدر ، بل وغزوة أُحد أيضـًا ، إنما كانت في تجارة أبي سفيان بأموال قريش جميعها من أصحابها يتجر لهم فيها .

فيُفهم من ذلك أنهم كانوا يعهدون بأموالهم للأغنياء يتاجرون فيها لهم ، ونفهم أيضـًا أن منهم من كان يتاجر معهم مضاربة في البيع والشراء على نصيب من الكسب يقتسمونه ، وأن منهم من كان يأخذ أموالهم يتاجر فيها على نسبة معلومة منها ، وذلك هو الربا ؛ لذا حكى القرآن الكريم عنهم في هذه الآية : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } [ البقرة : 275 ] ، فكأن المعاملة كانت تتم في حالة واحدة ؛ يأخذ التاجر أموال هؤلاء يبيع بها بيع المضاربة ، أو يبيع بها بيع الربا .

وهذا يدلنا على أن الفقراء كانوا يقرضون الأغنياء ليتاجروا، طامعين في أن تكسب أموالهم إما بالمضاربة، أو الربا، فأصحاب الأموال القليلة ( الفقراء ) هم المقرضون والتجار الأغنياء هم المقترضون، فتنبه.

وفي ذلك يقول القرطبي في (( المُفهم )) عند شرح حديث : (( وربا الجاهلية موضوع )) : كانت لهم بيوعات يسمونها بيع الربا ، منها : أنهم كانوا إذا حل أجل الدين يقول الغريم(2)  لرب الدين : أنظرني وأزيدك ، فينظره إلى وقت آخر على زيادة مقررة ، فإذا حل ذلك الوقت الآخر قال له أيضـًا كذلك ، وربما يؤدي ذلك إلى استئصال مال الغريم في نذر يسير كان أخذه في أول مرة ، فأبطل اللَّه ذلك وحرمه ، وتوعد عليه بقوله : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } [ البقرة : 275 ] ، وردهم إلى رءوس أموالهم ، وبلَّغ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ذلك قرآنـًا وسنة ، ووعظ الناس وذكرهم بذلك في ذلك الموطن(3) مبالغة في التبليغ ، وبدأ - صلى الله عليه وسلم - بربا العباس لخصوصيته بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ليقتدي الناس به قولاً وفعلاً ، فيضعون من غراماتهم ما كان من ذلك . انتهى من (( المفهم )).

وذكر ابن عباس : أن الجوع أصاب بعض قريش ، فقام فيهم هشام بن عبد مناف خطيبـًا، فقال : إنكم أجدبتم جدبًا تقلون فيه وتذلون ، وأنتم أهل حرم اللَّه وأشراف ولد آدم ، والناس لكم تبع ، فقالوا : نحن تبع لك ، فليس عليك منا خلاف ، فجمع كل بني أب على الرحلتين في الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام للتجارات ، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير ، حتى كان فقيرهم كغنيهم ، فجاء الإسلام وهم على ذلك ، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالاً ولا أعز من قريش .

قال الشاعر فيهم :

الخالطيـن فقيـرهم بغنيهم

حتى يكون فقيرهم كالكافي

فهذه عادة التكافل بين العرب من فك العاني وإطعام الجائع ، والتي كانوا يمدح بعضهم بها ويفخرون بها تتنافى تمامـًا مع ما يدعيه المدعون أن ربا الجاهلية ربا استهلاكي يأخذ فيه الفقراء من الأغنياء حتى يشتد عليهم الحال فيعجز عن السداد .

لذا كتبت تلك الكلمات رغبة في توضيح حقيقة ربا الجاهلية ، وبيانـًا ليعلم أن المجامع الفقهية التي أجمعت على حرمة ربا البنوك ما كانت غافلة عن نوع الربا اليوم ، وقد أنعم اللَّه علينا بعدد من علماء الإسلام ورجالهم يجاهدون للتخلص من الربا ، ولهم في ذلك ثمار جيدة ؛ من أهمها ظهور البنوك الإسلامية ، والتي يحاول العلمانيون وأشياعهم محاربتها والتضييق عليها.

واللَّه غالب على أمره ، وعليه فليتوكل المتوكلون .

----------------------

(1) انظر - رعاك اللَّه - كيف أنه حرم على المقرض أن يقرض بالربا ، فلا يباح له فعله لا في حاجة ولا في ضرورة ، ولكنه قال عن المقترض : إنه لا يرفع الإثم إلا إذا دعت الضرورة ، والضرورات خمس : هي ما يهدد : الدين ، والنفس ، والعرض ، والمال ، والعقل . فقطع بذلك السبيل على دعاوى المستحلين للربا المتأولين له ، والحمد للَّه رب العالمين .

(2) والغريم هنا هو ذلك التاجر الذي يرى المال يربح عنده أو وقع في ضائقة ويرجو أن يقوم منها ليسدد ما عليه ، ولا يتصور أبدًا أن يكون فقيرًا معدمـًا يطعم أهله بمال الربا ، فهذا هو ربا الجاهلية .

(3) أي في حجة الوداع في اجتماع الناس يوم عرفة .

عدد المشاهدات 9998