التربية بين الأصالة والتجديد

2011-02-06

صفوت نور الدين

يذكر مؤرخو التربية الحديثة أن البشرية قد عاشت آلاف السنين وهي لا تعرف التربية المنظمة التي نمارسها في مدارسنا أو معاهدنا اليوم. ولكن مما لا شك فيه أن التربية الأولية كانت تمارس في واقع الحياة حيث يصطحب الرجل أبناءه في أعمال الصيد والزراعة وغيرها فتنتقل المهارات التربوية المطلوبة بطريق المحاكاة أو التقليد، ولم تكن تلك المهارات والمعلومات من التعقيد بمكان نظرًا لبساطة الحياة وبدائية الثقافة.

وبتطور المجتمع: أفكاره واتجاهاته وطرق معايش الناس وقيمهم وأخلاقهم تطورت التربية كذلك. فنشأت حاجة المجتمع إلى من يهتمون بتربية الأبناء نيابة عن المجتمع وعن الآباء والأسرة فظهر المعلم، ثم تطور الأمر إلى بناء مؤسسات خاصة فظهرت المدرسة.

ويذكر المؤرخون أن المدارس انتشرت في اللصين من خمسة آلاف سنة وكذلك مصر الفرعونية والهند وفي بعض مدن أوربا مثل إسبرطة وأثينا.

هذا وإنه لمن نافلة القول أن نذكر أن التربية قد ارتبطت بظهور الإنسان على الأرض وإحساسه بنفسه وتعامله مع الأسرة ثم الجماعة.

 دروس تربوية أقدم يحكيها القرآن الكريم:

لكن القرآن الكريم يشد انتباهنا بقوة نحو درس تربوي أسبق من هذا أولى بالاهتمام من غيره. ذلك في قوله تعالى {وإذ قال ربك للملائكة إني جاع في الأرض خليفة...} إلى قوله تعالى {فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} البقرة 30-39.

فقبل أن يهبط الإنسان إلى الأرض أراد الله سبحانه أن يعلمه درسًا يعرف فيه:

عداوة الشيطان وكيده له وبعض حيل الشيطان ووسوسته. أثر الطاعة ومضرة المعصية في كشف ستر الله تعالى وسلب معونته.

قيمة العلم ورفعه لشأن الطين حتى تؤمر الملائكة بالسجود له. قبول الله لتوبة التائبين بل وعنايته بأن يلهم الإنسان كيف يتوب.

صادق وعد الله وزيف وعود الشيطان.

الكبر صفة ذميمة أوصلت الشيطان إلى الصغار.

وغير ذلك من الدروس التربوية التي ينقلها القرآن الكريم في قصة آدم هذه وقد ذكرها القرآن في سبعة مواضع.

كما يحدثنا القرآن الكريم عن درس تربوي آخر على الأرض في قوله تعالى {واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر...} إلى قوله تعالى {فأصبح من النادمين} المائدة 27-31.

وهو درس تربوي يعلم الله فيه الإنسان من الغراب. بل ويكتب من أجله على بني إسرائيل {أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا...}.

كما يقص الله سبحانه في القرآن الكريم من دروس التربية موعظة لقمان الحكيم لابنه في قوله {وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله أن الشرك لظلم عظيم....} إلى قوله تعالى {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} لقمان 13-19.

بل أن من الدروس التربوية الرائعة التي تبقى أمام أعين البشرية جمعاء نبراسًا هاديًا ما كان من شأن إبراهيم عليه السلام مع زوجته هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام ما جاء في سورة الصافات قوله تعالى {فبشرناه بغلام حليم. فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام إني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين. فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم} 101-107.

ولقد ساق البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال (أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقا لتعفى أثرها على سارة. ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق الزمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوعهما هناك. ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى إبراهيم منطلقًا فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء ؟ فقال له ذلك مرارًا. وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال "ربنا أني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع- حتى بلغ- يشكرون" وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا فلم تر أحدً. ففعلت ذلك سبع مرات.

قال ابن عباس قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فذلك سعي الناس بينهما.

فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت صه.. تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضًا، فقال قد أسمعت أن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف...... الخ الحديث الطويل؟

 المنهج الأصيل:

والله جلت قدرته إذ تعهد الإنسان قبل نزوله إلى الأرض لم يتركه بعد نزوله إليها فلقد أرسل الرسل وأنزل الكتب هداية للبشر، فجعل الرسل مبشرين ومنذرين وأرسلهم هداية للناس أجمعين فقال عن خاتم المرسلين -صلى الله عليه وسلم- {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} الأنبياء 107.

فالرسل الكرام قدوة صالحة للبشر.

والكتب المنزلة منهج متكامل لهم.

والله سبحانه عون لمن أطاعه.

وبهذه الثلاث تتحقق التربية المتكاملة. منهج في الكتب المنزلة. وقدوة في الأنبياء والمرسلين. وعون من الله رب العالمين.

والآن ما هو الهدف من عمليات التربية التي نمارسها في حياتنا. ذلك ما سنتناوله في المرة المقبلة إن شاء الله تعالى.

عدد المشاهدات 9634