السنة هى المصدر الثانى للتشريع - الحلقة الرابعة

2011-07-12

زكريا حسينى

HTML clipboard

الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا مباركًا فيه، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير الخلق سيد ولد آدم، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعدُ:

فقد تحدثنا في العدد الماضي عن الصحابة والتابعين وقوة الحفظ لديهم، وتكلمنا عن إذنه -صلى الله عليه وسلم- بكتابة السنة، والجمع بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن، ونكمل في هذا العدد، فنقول وبالله التوفيق وبه الثقة:

 

شبهة امتناع الصحابة رضي الله عنهم عن كتابة السنة وتدوينها

فإن قيل: قد كان الصحابة والتابعون – رضي الله عنهم – يمتنعون بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- عن كتابة السنة وتدوينها، بل وأحرقوا ما كُتب منها، واستدلوا على فعلهم هذا بنهيه -صلى الله عليه وسلم- عن كتابتها، وهذا كله يدل على عدم حُجية السنة، وعلى أن نهيه كان متأخرًا عن الإذن وناسخًا له، وإلا لعملوا بمقتضى الإذن.

فالجواب على ذلك من وجوه:

أولها: أنهم لم يكونوا مُجمعين على عدم كتابة السنة، ولا على محو ما كُتب أو تحريقه، وإنما أباح أكثرهم الكتابةَ واحتفظ بما كتب، والبعض كان يكتب بالفعل، ومن ذلك:

1- لمَّا وجّه الصديق – رضي الله عنه – أنس بن مالك إلى البحرين عاملاً على الصدقة كتب لهم: «إن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين، والتي أمر الله عز وجل بها رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطِ، ومن سُئل فوق ذلك فلا يعطِ»... الكتاب (النسائي 2447 وصححه الألباني).

2- روى مسلم عن ابن أبي مليكة أنه قال: «كتبت إلى ابن عباس رضي الله عنهما أسأله أن يكتب لي كتابًا ويخفي عني، فقال: ولد ناصح، أنا أختار له الأمور اختيارًا وأخفي، فدعا بقضاء عليّ فجعل يكتب منه أشياء، ويمر بالشيء فيقول: والله ما قضى بهذا عليٌّ إلا أن يكون ضَلَّ» (مسلم 7).

3- وروى عن طاوس أنه قال: «أُتي ابنُ عباس – رضي الله عنهما – بكتابٍ فيه قضاء عليّ – رضي الله عنه – فمحاه إلا قدرًا، وأشار سفيان بذراعه» (أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/13-14)).

4- وروى أحمد عن القعقاع بن حكيم أنه قال: «كتب عبد العزيز بن مروان إلى ابن عمر – رضي الله عنهما -: أن ارفع إليَّ حاجتك، فكتب إليه ابن عمر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «إن اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول». ولستُ أسألك شيئًا ولا أرد رزقًا رزقنيه الله منك» (أحمد 4474).

5- روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: حدثني محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك قال محمود: قدمت المدينة فلقيت عتبان فقلت: حديثٌ بلغني عنك، قال: أصابني في بصري بعض الشيء، فبعثت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي فأتخذه مصلى، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن شاء من أصحابه، فدخل وهو يصلي في منزلي، وأصحابه يتحدثون بينهم، ثم أسندوا عُظم ذلك وكُبره إلى مالك بن دُخْشُم، قالوا: ودوا أنه دعا عليه فهلك، وودوا أنه أصابه شر، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلاة، وقال: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟». قالوا: إنه يقول ذلك وما هو في قلبه، قال: «لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه». قال أنس: فأعجبني هذا الحديث فقلت لابني: اكتبه، فكتبه) (مسلم 33).

وهناك عشرات الآثار، بل مئات الآثار التي تدل على وجود الكتابة على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعهد الصحابة رضي الله عنهم.

ثانيها: أن محو ما كُتب أو تحريقه والنهي عن الكتابة الحاصل من بعض الصحابة؛ لو سُلِّم أنه حجة فليس فيه دلالة على عدم حُجية السنة، وذلك لما تقدم من أن نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الكتابة لا يدل على عدم حُجية السنة، وإنما كان النهي لعللٍ أخرى.

ثالثها: أن هذه الأمور لا دلالة فيها على أن النهي متأخر عن الإذن وناسخ له؛ لأنه يمكن أن يقال: إن كلاًّ من النهي والإذن عامٌّ في جميع الأحوال؛ وعليه فقد استمر هذا البعض على هذه الأمور بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم لم يطّلعوا على إذنه، واعتقدوا استمرار الحكم وعدم نسخه، كما يمكن أن يقال مثل ذلك في التدوين وجمع السنة في كتاب واحد مع القرآن.

 

شبهة امتناع الصحابة عن التحديث بالسنة ونهيهم عنه

فإن قيل: قد ظهرت الحكمة من امتناعهم عن كتابة السنة وتدوينها، ولكن ماذا نقول في امتناعهم عن التحديث بها ونهيهم عنه؟ أفلا يدل حصول ذلك منهم على أن عدم حجية السنة كان متقررًا عندهم، وأنهم علموا إرادة الشارع ألا تُنقل حتى لا يتخذها الناس دليلاً على الأحكام الشرعية؟

والجواب على ذلك يتضح فيما يلي:

أولاً: لا يصح أن يتوهم مُتوهِم أن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- امتنعوا كلهم عن التحديث في جميع الأحوال، ولا أن بعضهم امتنع أحيانًا؛ لكون ذلك الامتناع ناشئًا عن عدم حجية السنة، وكيف يصح هذا التوهم، وقد ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرهم بالتحديث وحثّهم على التبليغ لما يصدر عنه -صلى الله عليه وسلم- إلى من بعدهم، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «نضَّر الله امرأً سمع منا شيئًا فبلَّغه كما سمعه، فرُبّ مُبلّغ أوعى له من سامع». [الترمذي 2657 وصححه الألباني]، وقال فيما روى ابن عباس رضي الله عنهما -: «تسمعون ويُسْمَعُ منكم، ويُسْمَعُ ممن سَمِعَ منكم» (أبو داود 3659 وصححه الألباني).

وقد تواتر عن الصحابة رضي الله عنهم – سواء منهم من حدَّثَ ومن امتنع عن التحديث – أنهم كانوا أحرص الناس على التمسك بالسنة، وعلى تبليغها والتحديث بها، والاحتجاج بها على الغير، وعلى الأخذ بها والاقتناع بها إذا احتج بها الغير، عادلين عن آرائهم، وعلى الرجوع إليها فيما يطرأ من الحوادث، وعلى حضّ غيرهم على العمل بها، وذلك كله من غير نكير من أحد.

فأبو بكر رضي الله عنه يحتج بحديث: «الأئمة من قريش» (مسند أحمد وصححه الألباني في إرواء الغليل 520) على الأنصار يوم السقيفة فيقبلون منه، دون نكير من أحد، وكذلك يحتج بحديث: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» (مسلم 1757) على فاطمة رضي الله عنها فتقبل منه، وعمر يحتج على أبي بكر رضي الله عنهما بحديث: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله». فيرد عليه أبو بكر بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في آخر الحديث: «إلا بحقها» (متفق عليه).

ويحتج أيضًا عمر رضي الله عنه وهو يقبِّل الحجر الأسود بقوله: «لولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك» (متفق عليه)، ويُحَدِّثُ على المنبر بحديث: «إنما الأعمال بالنيات..» (البخاري 1) ويقتنع بحديث الاستئذان الذي رواه أبو موسى بعد أن شهد بسماعه أبو سعيد الخدري رضي الله عنهما (البخاري في الأدب المفرد 436 وصححه الألباني).

وهو أيضًا القائل: إياكم والرأي، فإن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وهو القائل كذلك: خير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-. وقال أيضًا – رضي الله عنه -: سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله تعالى.

ويقول علي رضي الله عنه: «إذا حُدثتم – وفي رواية: إذا حدثتكم – عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثًا، فظنوا به الذي أهنأ والذي هو أتقى، وفي رواية: فظنوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهناه وأتقاه وأهداه».

ويحتج ابن مسعود رضي الله عنه بحديث: «لعن الله الواشمة» (متفق عليه). ويروي حديث: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء» (متفق عليه). محتجًا به على عثمان رضي الله عنه لما عرض عليه الزواج.

وهذا أبو هريرة رضي الله عنه يقول له ابن عمر رضي الله عنهما: «كنت ألزمنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعرفنا بحديثه». ويترحم عليه في جنازته، ويقول: «كان يحفظ على المسلمين حديث نبيهم». ويقول أبو هريرة رضي الله عنه فيما يرويه البخاري رحمه الله: «إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثًا: « إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ » (البقرة:159، 160)، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون» (متفق عليه).

وأبو ذر رضي الله عنه يقول: «لو وضعتم الصَّمْصَامَةَ (أي: السيف) على هذا (وأشار إلى قفاه)، ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن تجيزوا عليَّ لأنفذتها».

والبراء بن عازب – رضي الله عنه – يقول – فيما يرويه أحمد: «ما كل الحديث سمعناه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يحدثنا أصحابنا عنه، كانت تشغلنا رِعْيَةُ الإبل».

والآثار في ذلك عن الصحابة كثيرة جدًّا لا يمكن حصرها، وقد سبق كثير منها – فيما مضى – ومجموعها يفيد إفادة قطعية أنهم ما كانوا يمتنعون عن التحديث لذات التحديث، ولا لأن الحديث ليس بحجة في نظرهم – بل لبعض الموانع التي تطرأ، ويفيد أن حجية السنة متقررة في نفوسهم مجمعون عليها، ولا يصح أن يتوهم أحد أنهم امتنعوا عن التحديث ونهوا عنه لعدم حجيتها في نظرهم؛ بعدما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأمر بالتبليغ والتحديث، وبعدما ثبت من إجماعهم على حجية السنة، وعلى حرصهم على امتثال أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتحديث عنه والتبليغ.

أفيسوغ لعاقل بعد أن عرف هذا أن يتصور أن الإسلام هو القرآن وحده، وأن السنة وما أجمع عليه الصحابة ليس بحجة؟ وأن نهي صحابي أو اثنين أو أكثر عن التحديث دليل على عدم حجية السنة بعد أن عرفت أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعملون بكل ما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويتخذونه حجة فيما يَعِنُّ لهم من الأمور، وما يحصل من الحوادث؟!

 

الأسباب التي حملت الصحابة على الامتناع والنهي

مما سبق يتبين أن هناك أسبابًا حقيقية حملتهم على الامتناع عن التحديث والنهي عنه – بخلاف ما توهمه من يتوهم أن ذلك كان لعدم حجية السنة عندهم – وهذه الأسباب نجملها فيما يأتي:

السبب الأول: أن بعض الآثار التي تمسك بها أصحاب الشبهة تفيد أن الصحابة إنما كانوا ينهون عن الإكثار من التحديث – لا عن التحديث بالكلية –؛ وذلك خشية وقوع المكثر في الخطأ وهو لا يشعر، فيتخذ حديثه الذي أخطأ فيه حجة يعمل بها إلى يوم القيامة، فلذلك كانوا يتحرزون أعظم التحرز، ويُقلِون من التحديث، ولا يحدثون إلا بما يثقون به من أنفسهم، ومن كان منهم واثقًا من نفسه فقد أكثر من التحديث.

وهذه الخشية منهم دليل على عِظم شأن السنة في نفوسهم، وأنها حجة في الدين يجب العمل بها – على عكس ما ذهب إليه أصحاب الشبهات –، وهي في ذات الوقت تملأ قلوبنا احترامًا لهم وثقة بهم، واطمئنانًا لما يروونه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وهناك أحاديث وآثار كثيرة تدلنا على أن خشيتهم من الخطأ كانت السبب في امتناعهم ونهيهم عن الإكثار، وأنهم ما كانوا يحدثون أو يعملون إلا بما يثقون به ويطمئنون إليه، ومن ذلك:

1- عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم، فإنه من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار». (الترمذي 2951 وصححه الألباني).

2- عن أبي قتادة – رضي الله عنه – أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول على هذا المنبر: «يا أيها الناس، إياكم وكثرة الحديث، من قال عليَّ فلا يقولنَّ إلا حقًّا أو صدقًا، فمن قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار». رواه أحمد وابن ماجه (35) والدارمي والحاكم وحسنه الألباني.

3- عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: «من روى عني حديثًا وهو يَرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين». أخرجه أحمد ومسلم في المقدمة والترمذي وابن ماجه (38) وصححه الألباني، وأخرجوا مثله عن المغيرة بن شعبة.

4- عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع». (مسلم 5).

5- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «من سمع حديثًا فأداه كما سمع فقد سلم». (مسلم 5). وقال أيضًا: «بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع». (مسلم 5).

6- عن أنس – رضي الله عنه – أنه قال: «إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثًا كثيرًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من تعمد عليَّ كذبًا فليتبوأ مقعده من النار». (متفق عليه).

إلى غير ذلك من الأحاديث والآثار الكثيرة التي تفيد أن امتناع الصحابة رضي الله عنهم عن التحديث، ونهيهم عنه، إنما كان عن الإكثار من التحديث خشية الوقوع في الخطأ.

السبب الثاني: أنهم كانوا يمتنعون أو ينهون عن أن يحدثوا قومًا حديثي العهد بالإسلام، ولم يكونوا قد أحصوا القرآن، فخافوا عليهم الاشتغال عنه بغيره؛ إذ القرآن هو الأهم والأصل لكل علم.

يشير إلى هذا السبب قول عمر رضي الله عنه: «إنكم تأتون بلدة لأهلها دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث». وهذا يقع كثيرًا الآن، فالإنسان إذا وُجِّه لحفظ الحديث أو تعلم الفقه أو غيره، ولمّا يحفظ القرآن؛ فإنه نادرًا ما تكون له همة بعد ذلك لحفظ القرآن الكريم.

السبب الثالث: أنهم إنما نهوا عن الإكثار من الحديث خوف اشتغال سامع الكثير منهم بحفظه عن تدبر شيء منه وتفهمه؛ لأن المكثر لا تكاد تراه متدبرًا متفقهًا. 

السبب الرابع: أنهم كانوا يمتنعون عن التحديث وينهون عنه بالنسبة للعامة وضعاف العقول، وذلك بالأحاديث التي يعسر عليهم فهمها، فيحملونها على غير المراد منها، أو يكون معناها غير مقبول لعقولهم القاصرة، فيعترضون عليها، فيؤدي ذلك إلى تكذيب الله ورسوله.

وفي ذلك يقول ابن مسعود – رضي الله عنه-: «ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة». (مسلم 5).

ويقول عليٌّ رضي الله عنه: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكَذَّبَ الله ورسوله!!». (البخاري 127).

أو يكون النهي متعلقًا بالأحاديث التي يُخشى من العامة الاتكال عليها؛ كحديث أنس رضي الله عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال – ومعاذ رديفه على الرَّحْل -: «يا معاذ بن جبل». قال: لبيك رسول الله وسعديك – ثلاثًا – قال: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله – صدقًا من قلبه – إلا حرمه الله على النار». قال: يا رسول الله، ألا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: «إذن يتكلوا». وأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا» (متفق عليه).

وبذلك يتضح لك أيها القارئ الكريم أن السُّنة حجة بنفسها وأنها المصدر الثاني للتشريع ولا غنى عنها في إثبات الأحكام الشرعية.

نسأل الله تعالى أن يحيينا مسلمين، ويتوفانا مسلمين، وأن يحيينا على سنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويجعلنا من أهلها حتى نلقاه سبحانه، وأن يحشرنا تحت لواء نبينا، وأن يسكننا الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين،

والحمد لله رب العالمين.

عدد المشاهدات 10353