تغليظ تحريم دماء المسلمين و أعراضهم و أموالهم

2012-04-10

زكريا حسينى

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وإمام النبيين محمد بن عبد الله وآله وصحبه أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:

فقد ظهرت في الآونة الأخيرة جرأة كثير من الناس على الدماء والأموال والأعراض، والولوغ فيها؛ مرتكبين في ذلك أعظم الموبقات، وصار التهاون بدماء المسلمين أمرًا منتشرًا، فلا يبالي بعض الناس بجرائم الدماء أو الأموال، حتى كثرت، وصار يُهدم على المستضعفين بيوتهم، ويُقتلون صباح مساء في كثير من مواطن وبلاد المسلمين، وهذا نذير شؤم؛ إذ فيه اجتراء على حرمات الله، وإزهاق لأرواحٍ خلقَها وأنفسٍ فطرَها، ليس لغيره أن يزهقها إلا بما شرع في كتابه وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولأجل ذلك كله كانت هذه الكلمات التي أسأل الله أن ينفع بها المسلمين أجمعين.

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس يوم النحر فقال: «يا أيها الناس، أي يوم هذا؟»، قالوا: يوم حرام. قال: «فأيّ بلدٍ هذا؟»، قالوا: بلد حرام. قال: «فأي شهر هذا؟». قالوا: شهر حرام. قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا». فأعادها مرارًا، ثم رفع رأسه، فقال: «اللهم هل بلَّغْتُ؟ اللهم هل بَلَّغْتُ؟» قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته فليبلغ الشاهد الغائب: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض».

هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في موضعين من صحيحه في باب «الخطبة أيام منى» من كتاب الحج برقم (1739)، وفي باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» من كتاب الفتن برقم (7079) مقتصرًا على قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا ترتدوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض». وأخرجه من حديث أبي بكرة رضي الله عنه في تسعة مواضع من صحيحه: في كتاب العلم، وفي كتاب الحج، وفي كتاب بدء الخلق، وفي كتاب المغازي، وكتاب التفسير، وكتاب الأضاحي، وكتاب الفتن، وكتاب التوحيد.

وأخرجه أيضًا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في سبعة مواضع: في كتاب الحج، وكتاب المغازي، وموضعين في كتاب الأدب، وفي كتاب الحدود، وكتاب الديات، وكتاب الفتن.

وأخرجه من حديث جرير رضي الله عنه في أربعة مواضع: في كتاب العلم، وفي كتاب المغازي، وكتاب الديات، وكتاب الفتن.

كما أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي بكرة في كتاب القسامة برقم (1679)، ومن حديث ابن عمر رضي الله عنهما في كتاب الإيمان برقم (66)، ومن حديث جرير في كتاب الإيمان برقم (65).

المراد بترجمة البخاري لهذا الباب

أورد البخاري – رحمه الله – هذا الحديث في كتاب الحج، باب «الخطبة أيام منى». قال الحافظ ابن حجر في الفتح: أي مشروعيتها، خلافًا لمن قال: إنها لا تُشرع، وأحاديث الباب مصرِّحة بذلك.

وأيام منى أربعة: يوم النحر، وثلاثة أيام بعده، وليس في شيء من أحاديث الباب التصريح بغير يوم النحر، وهو الموجود في أكثر الأحاديث؛ كحديث الهرماس بن زيد، وأبي أمامة، كلاهما عند أبي داود، وحديث جابر بن عبد الله عند الإمام أحمد، قال: «خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر، فقال: أي يوم أعظم حرمة؟» الحديث، وقد تقدم حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وفيه ذكر الخطبة يوم النحر.

وأما قوله في حديث ابن عمر إنه قال ذلك بمنى، فهو مطلق فيُحمل على المقيد، فيتعين يوم النحر، قال ابن المنير في الحاشية: أراد البخاري الرد على من زعم أن يوم النحر لا خطبة فيه للحاج، وأن المذكور فيه من باب الوصايا العامة، لا على أنه من شعار الحج، فأراد البخاري أن يبين أن الراوي سماها خطبة، كما سمى التي وقعت في عرفات خطبة، وقد اتفقوا على مشروعية الخطبة يوم عرفة، فكأنه ألحق المختلف فيه بالمتفق عليه. انتهى. والله أعلم.

شرح الحديث

ابتدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- الحديث بنداء المخاطبين فقال: «يا أيها الناس». والمقصود المسلمون؛ لأنهم الموجودون في هذا الموقف، وإن كان لفظ الناس يتناولهم وغيرَهم، إلا أنهم المقصودون بالخطاب.

ثم يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أي يوم هذا؟» والمسئول عنه هو يوم النحر، كما هو مصرّح به في هذا الحديث وغيره من الأحاديث، وأجاب الصحابة رضي الله عنهم بأنه يوم حرام، كما في حديث ابن عباس هذا، وفي حديث أبي بكرة قالوا: الله ورسوله أعلم، قال أبو بكرة: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال الحافظ: ويُجمع بينهما بأنهم فوّضوا أولاً – أي قالوا الله ورسوله أعلم – فلما سكت، أجابوا بأنه يوم حرام، أو أنهم أقروا ما قال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما قال: «أليس يوم النحر؟». فيكون جوابًا منهم بالإقرار.

ثم سأل -صلى الله عليه وسلم- عن البلد، فقال: «أي بلد هذا؟» فأجابوا بقولهم: بلد حرام، ثم قال: «أي شهر هذا؟» قالوا: شهر حرام. فلما أقروا بذلك، وذكروا ما ذُكِّرُوا به من أن اليوم يوم حرام، والبلد بلد حرام، والشهر شهر حرام، قاس لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- على حرمة اليوم والبلد والشهر حرمةَ الدماء والأعراض والأموال.

وقد جاء الإسلام بتحريم قتل النفس بغير حق كما ورد في غير آية من كتاب الله تعالى، وفي أكثر من حديثٍ من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمن الآيات قوله تعالى وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ » في سورة الأنعام آية (151)، وفي سورة الإسراء آية (33)، كما جاء في صفات عباد الرحمن في سورة الفرقان أنهم: « وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ » [الفرقان:68].

ومن الأحاديث التي فيها حرمة دم المسلم: قوله -صلى الله عليه وسلم-: «كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه».

ومنها ما قاله -صلى الله عليه وسلم- في خطبة عرفة من حديث جابر وغيره، وفي خطبة يوم النحر من هذه الأحاديث التي معنا في تحريم دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم: من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا».

وقد أكد النبي -صلى الله عليه وسلم- تحريم الدماء بقوله في أكثر من حديث: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض». وفي رواية: «لا ترجعوا بعدي ضُلاَّلاً يضرب بعضكم رقاب بعض». وفي رواية: «لا ترتدوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض». وفي رواية عند مسلم: «فلا تَرْجِعُنَّ بعدي كفارًا – أو ضلالاً – يضرب بعضكم رقاب بعض».

قال الإمام النووي – رحمه الله -: قيل فيه (أي في كفر من فعل ذلك) سبعة أقوال:

أحدها: أن ذلك كفرٌ في حق المستحِلّ بغير حق.

والثاني: المراد كفرُ النعمةِ وحقِّ الإسلامِ.

الثالث: أنه يقرِّبُ من الكفر ويؤدي إليه.

والرابع: أنه فعل كفعل الكفار.

والخامس: المراد حقيقة الكفر، ومعناه: لا تكفروا ودوموا مسلمين.

والسادس: حكاه الخطابي وغيره أن المراد بالكفار المتكفرون بالسلاح؛ يقال: تكفَّرَ الرجل بسلاحه إذا لبسه، قال الأزهري في كتابه «تهذيب اللغة»: يقال للابس السلاح كافر؛ لأنه استتر وتغطى به، وأصل الكفر في اللغة الستر والتغطية.

والسابع: قال الخطابي: معناه لا يكفّر بعضكم بعضًا وتستحلوا قتال بعضكم بعضًا، ثم قال النووي بعد أن ساق هذه الأقوال: وأظهر الأقوال الرابع، وهو اختيار القاضي عياض، رحمه الله.

وأما المراد بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «بعدي». أي: بعد فراقي من موقفي هذا، وكان هذا يوم النحر بمنى في حجة الوداع، أو يكون بعدي أي خلافي؛ أي لا تخلفوني في أنفسكم بغير الذي أمرتكم به، أو يكون تحقق -صلى الله عليه وسلم- أن هذا لا يكون في حياته، فنهاهم عنه بعد مماته.

وكذا الإسلام يحرّم أموال المسلمين؛ فلا يُعتدى عليها لا بأكل بالباطل، ولا بالإتلاف والتدمير والإهلاك، قال تعالى: « وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ » [البقرة:188]، وقال تعالى: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ » [النساء:29].

وأمر بكتابة الدَّيْن والإشهاد عليه، وأمر بالإشهاد على البيع؛ وذلك لتُحفظ الأموال وتُصان، وبيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرمة الأموال، كما جاء في الأحاديث التي سقناها في تحريم الدماء، وحرم -صلى الله عليه وسلم- الرشوة، ونهى عن أكل الربا، وبيّن الله تعالى أن أكل الربا من سمات اليهود وصفاتهم، وهو داخل ضمن أكلهم أموال الناس بالباطل، قال الله تعالى: « وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ » [النساء:161]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الربا: «لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه» [أخرجه مسلم].

وقال -صلى الله عليه وسلم- في الرشوة: «لعن الله الراشي، والمرتشي، والرائش». إلى آخر ما جاء في النصوص من تحريم أكل الأموال بالباطل؛ وذلك حفظًا لأموال المسلمين وصيانة لها.

كما حرّم الإسلام الاعتداء على الأعراض؛ فحرم الزنا والفواحش ما ظهر منها وما بطن، بل نهى عن الاقتراب من الفواحش، وحرّم الوسائل المفضية إلى انتهاك الأعراض، فأمر المرأة بالحجاب، وأمر الرجال والنساء بغض الأبصار، والبعد عن مواطن الريبة، قال تعالى: « وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا » [الإسراء:32]، وقال جل وعلا: « وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ َ» [الأنعام:151].

وقال في صفات عباد الرحمن: « وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ » [الفرقان:68].

وقد سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك». قيل: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك»، قيل: ثم أي؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك».

وقد رجم النبي -صلى الله عليه وسلم- الزاني المحصن، وجلد الزاني غير المحصن، كما في حديث العسيف وغيره؛ وذلك حفظًا للأعراض، وكذلك أوجب الله رد الأموال المأخوذة بغير حق إلى أصحابها، كما أمر بالقصاص حفظًا للأنفس وصونًا لها.

فما لنا نرى اليوم ممن يسعون في الفتن من يسترخص الدماء، ولا يبالي بقتل الأبرياء بزعم الحصول على الحريات، وتحقيق المغانم الوهمية والمزعومة، ألا يعلم هؤلاء أن زوال الدنيا بأسرها أهون عند الله تعالى من قتل المؤمن، وأن المؤمن لا يزال في فسحة من دينه ما لم يُصب دمًا حرامًا، وأن حرمة المسلم أعظم عند الله تعالى من حرمة الكعبة، فما لهم عن التذكرة معرضين! وأسلموا أنفسهم لشياطين الإنس والجن الذين يغرونهم بقتل النفس، وتهوين ذلك في نفوسهم، إنهم يسعون – فيما يزعمون – إلى حرية الرأي، وحرية التعبير، وهذا يلزمهم بأن يتركوا غيرهم يعبّر عن رأيه ويمارس حريته بلا صدام ولا نزاع.

وكذا الأموال تُهدر إما بالإحراق، أو التدمير، أو الهدم، أو غير ذلك، وهذه الأموال إما عامة يملكها الناس جميعًا، فلا يجوز إتلافها، ولا الاعتداء عليها، وإما أنها أموال خاصة، فكذلك لا يجوز المساس بها، ولا الاقتراب منها بتدميرٍ ولا حرق ولا إتلاف، بل يجب الحفاظ عليها، وليتعامل الإنسان مع مال غيره كما يحب أن يعامله الناس، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» [أخرجه البخاري]. فهل يود ويرغب أن يدمر الناس ماله ويقوموا بإحراق سيارته، أو تدمير منشأته، أو غير ذلك؟!

إن أي عاقل لا يود إلا المحافظة على ماله وممتلكاته، فليعامل الناس في أموالهم بما يحب أن يعاملوه، وليحب لهم ما يحبه لنفسه من الخير ومن صون الأموال والمحافظة عليها، وإنما تدمر الأموال اليوم لمجرد المخالفة في الرأي، وفي الحقيقة لا يدفع إلى ذلك إلا الهوى، والهوى يُضل صاحبه ولا يهديه سبيلاً.

وكذلك الأعراض في الفتن تُنتهك، وتُبتذل ولا تُصان، ولا يفكر من استهوتهم الشياطين في عواقب الأمور، إلا بعد فوات الأوان، ويندم حين لا ينفع الندم، ولاسيما المرأة التي تخرج من بيتها لتشارك في التظاهرات والاحتجاجات، والعجب ممن يشجعون على ذلك غير آبهين بشرع الله تبارك وتعالى في شأن النساء؛ بحجة أن النساء في غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- كن يخرجن لمداواة الجرحى وسقي الماء، وشتان بين المرأة في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي عهدنا هذا، إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- منع المرأة أن تسافر مسيرة ليلة بدون زوج أو ذي رحم محرم، وهنا نساء وفتيات أرسلهن أزواجهن أو آباؤهن، أو خرجن تحت بصر أوليائهن وسمعهم ليشاركن في تظاهرات واحتجاجات يختلط فيها الحابل بالنابل، ولعل من شجّع على ذلك، وأبدى إعجابه به من الدعاة من خشي أن يُرمى بالتطرف أو الرجعية أو التخلف!!

فعلى من بدر منه ذلك أن يبادر بالتوبة النصوح، ويرجع عما صرّح به، ويصحّح للناس ما صار منه من خطأ.

نسأل الله تعالى أن يعفو عن المسلمين أجمعين، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، إنه القادر على ذلك ومولاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

نقلا عن مجلة التوحيد

عدد المشاهدات 14075