الصدقة.. مفهومها، وأنواعها، وعظم أجرها

2012-07-17

زكريا حسينى

الحمد لله رب العالمين، حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. وبعدُ:

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على كل مسلم صدقة». فقالوا: يا نبي الله، فمن لم يجد؟ فقال: «يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق». قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «يعين ذا الحاجة الملهوف». قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «فليعمل بالمعروف، وليمسك عن الشر؛ فإنها له صدقة».

هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في كتاب الزكاة من صحيحه، باب على كل مسلم صدقة برقم (1445)، وفي كتاب الأدب، باب كل معروف صدقة برقم (6022)، وكذا أخرجه الإمام مسلم في كتاب الزكاة من صحيحه، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف برقم (1008)، وأخرجه الإمام النسائي في كتاب الزكاة من سننه باب صدقة العبد برقم (2539). وأخرجه الإمام أحمد في المسند برقم (4/395، 411)، وأخرجه الإمام الدارمي في سننه كتاب الرقاق، باب على كل مسلم صدقة برقم (2747).

شرح الحديث

في هذا الحديث يحث النبي صلوات الله وسلامه عليه على الصدقة، ويبين أن الصدقة أنواع متعددة، لا تقتصر على الصدقة بالمال، وإنما تشمل الصدقة بالمال والبدن، وبكل ما فيه نفع قاصر على صاحبه أو متعدٍ إلى الغير، وقد بدأ صلوات الله وسلامه عليه بالصدقة بالمال، وقد وردت أحاديث كثيرة تحث على الصدقة وترغّب فيها، منها ما يلي:

1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها، أو يرفع عليها متاعه، صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة». [متفق عليه].

2- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه خُلِق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل؛ فمن كبّر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبّح الله، واستغفر الله، وعزل حجرًا عن طريق الناس، أو شوكة أو عظمًا عن طريق الناس، وأمر بمعروف أو نهى عن منكر، عدد تلك الستين والثلاثمائة سلامى، فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار». [مسلم 1007].

3- حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يُصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة؛ فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى». [مسلم 720].

4- حديث بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة». قالوا: ومن يطيق ذلك يا نبي الله؟ قال: «النُّخَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ تَدْفِنُهَا، وَالشَّيْءُ تُنَحِّيهِ عَنِ الطَّرِيقِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَرَكْعَتَا الضُّحَى تُجْزِئُكَ». [أبو داود 5244، وصححه الألباني].

5- حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على كل منسم [أي مفصل] من ابن آدم صدقة كل يوم». فقال رجل من القوم: ومن يطيق هذا؟ قال: «أمْر بالمعروف صدقة، ونهْي عن المنكر صدقة، والحمل على الضعيف صدقة، وكل خطوة يخطوها أحدكم إلى الصلاة صدقة». [ابن حبان في صحيحه، والبزار 926، وقال في الإحسان (ص299): وفي إسناده مقال؛ لأنَّه من رواية سماك عن عكرمة، وهي مضطربة، إلا إنَّ للحديث ما يقويه].

6- حديث أبي ذر في مسند الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس». قيل: يا رسول الله، ومن أين لنا صدقة نتصدق بها؟ قال: «إن أبواب الخير لكثيرة؛ التسبيح والتكبير والتحميد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتميط الأذى عن الطريق، وتُسمِع الأصم، وتهدي الأعمى، وتُدِلّ المستدل على حاجته، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كله صدقة منك على نفسك».[ابن حبان في صحيحه 3377، وقال الألباني: صحيح لغيره انظر صحيح الترغيب 3/80].

7- حديث أبي ذر رضي الله عنه أن ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: «أوليس قد جعل الله لكم ما تَصَدَّقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة». قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليها فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر».[مسلم 1006]. وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة في هذا الشأن.

وهذه الأحاديث تدل بمجموعها على أن الصدقة تتعدد بأنواعها، فمنها الصدقة بالمال، ومنها الصدقة بالبدن؛ وصدقات البدن منها القولية ومنها الفعلية، ومنها ما هو متعد نفعه، ومنها القاصر على صاحبه.

فأما صدقة المال فينتفع بها أنواع من الناس ذُكروا في آية الصدقات في سورة التوبة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].

قال القرطبي في تفسير هذه الآية: خص الله سبحانه بعض الناس بالأموال دون بعض نعمة منه عليهم، وجعل شكر ذلك منهم إخراج سهم يؤدونه إلى من لا مال له، نيابة عنه سبحانه فيما ضمنه بقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].

والحصر في الآية على أن الصدقة – والمقصود بها زكاة الفريضة – لا تحل إلا لهؤلاء الأصناف الثمانية وهم:

1- الفقراء: جمع فقير وهو الذي لا يملك ما يكفي لوازمه المعيشية، وضده الغني.

2- المسكين: ذو المسكنة أي المذلة التي تحصل بسبب الفقر، وكل من الفقير والمسكين إذا ذُكر وحده شمل الآخر وأغنى عن ذكره، أما إذا اجتمعا فإنهما يفترقان، فالمسكين على هذا القول أشد حاجة من الفقير، وقد رجّح كثير من العلماء ذلك.

3- العاملون عليها: قال بعض العلماء: على هنا بمعنى اللام؛ أي العاملون لأجلها، ومعنى العمل السَّعي والخدمة، والمقصود الذين يسعون لجمع زكاة الماشية والزروع وغيرها من الأموال؛ فهم يجدون مشقة في سعيهم، ويعملون عملاً عظيمًا، والعاملون عليها هم من يكلفهم الإمام بهذا العمل، فيُعطَوْن من الزكاة مقابل عملهم عليها.

4- المؤلفة قلوبهم: هم الذين تأنس نفوسهم للإسلام، والمؤلفة قلوبهم لهم أحوال؛ فمنهم من كان حديث عهد بالإسلام ضعيف الإيمان أو فيه نوع معصية؛ فيؤلف قلبه على قوة الإيمان وعلى الطاعة ليكون من أهلها.

ومنهم الكفار الذين يظهر منهم ميل إلى الإسلام، أو يطمع المسلمون في إسلامهم فهؤلاء يعطون من الزكاة لتأليف قلوبهم على الإسلام؛ لعلهم يسلمون.

ومنهم الكفار الأشداء على المسلمين الذين يُظهرون شدتهم وأذاهم للمسلمين، فهؤلاء يعطون من الزكاة لترقيق قلوبهم وجلب الشفقة منهم على المسلمين.

وقد عد العلماء من الصنف الأول أبا سفيان بن حرب والحارث بن هشام رضي الله عنهما، كما عدّوا من الصنف الثاني صفوان بن أمية، ومن الصنف الثالث عامر بن الطفيل، وهؤلاء جميعًا قد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم من أموال الصدقات وغيرها يتألفهم على الإسلام.

5- في الرقاب: أي في فك الرقاب، أي: تحرير الرقيق من العبيد والإماء؛ قال الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}. ولم تجر الرقاب باللام حتى لا يُتوهم أن أموال الصدقات تُدفع للرقيق، وإنما تُدفع في تحريرهم وفك رقابهم من الرق.

6- الغارمين: هم الذين ركبهم الدَّيْن، ولا وفاء عندهم به، قال القرطبي: «ويعطى منها من له مال وعليه دين محيط به، فإن لم يكن له مال وعليه دين فهو فقير وغارم يُعطى بالوصفين، وقد ألحق كثير من العلماء بالغارمين من تحمل حمالة أي تكفل وضمن غيره، أو تحمل ديات بين طائفتين من المسلمين وغرمها ليُصلح بين الطائفتين، أو يتحمل دَيْنًا على صديق له ليصلح بين صاحبه المدين وبين الدائن إذا كانت بينهما خصومة ونحو ذلك.

7- في سبيل الله: هم الغزاة والمرابطون على الثغور؛ يُعطون ما ينفقونه في غزوهم سواء أكانوا أغنياء أم فقراء. وهو قول أكثر العلماء؛ إذا أطلق في سبيل الله فينصرف إلى الجهاد والغزو، ويرى ابن عمر أنه يلحق به الحجاج والعُمّار، وألحق بعض العلماء المعاصرين طلبة العلم فأدخلوهم في سبيل الله تعالى؛ وذلك لحديث: «مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى يَرْجِعَ». [الطبراني في الأوسط 380، وقال الألباني: حسن لغيره، انظر صحيح الترغيب 1/20].

8- ابن السَّبيل: السبيل الطريق؛ ونُسب المسافر إليها لملازمته إياها ومروره عليها.

والمراد الذي انقطعت به الأسباب في سفره عن بلده ومستقره وماله، فيُعطى منها وإن كان غنيًّا في بلده.

فهؤلاء أصناف منتشرة في المجتمع المسلم، موجودة في كل عصر ومِصْر؛ ينتفعون بالصدقة من المال، ولا شك أن صدقة المال تؤدي إلى نوع تكافل وتعاون وتراحم وتعاطف بين المسلمين، وهذا يؤدي بلا ريب إلى أمن وأمان، وكرم وإحسان، وهدوء واطمئنان بين المسلمين، وهذا مطالب شرعية.

ومما حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم المسلم غير الواجد للصدقة أن ينشط فيقوم ويعمل بيده، إن كان يستطيع العمل؛ فينفع نفسه بالمال الذي يحصله من عمله، ويتصدق بفضل ماله حتى يكون من ذوي الأيدي العليا، ولا يجلس ويقنع بالأخذ؛ فيكون من ذوي اليد السفلى، فاليد العليا خير من اليد السفلى، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الحديث المتفق عليه.

الصدقات البدنية العملية:

وأما من لم يجد المال ليتصدق به؛ فإن الله تبارك وتعالى فتح له أبواب الصدقة بالبدن؛ فمنها الصدقات العملية مثل:

إغاثة الملهوف وإعانة المستغيث، وإعانة الرجل على دابته، ورفع متاعه عليها، وإزالة القذر من المسجد وتنظيفه، وتطهيره وتطييبه، وتنحية الأذى من شوك أو حجر وغير ذلك عن الطريق، والعدل بين المتخاصمين، وإصلاح ذات البين، والسعي على الأرملة والمسكين، وتربية اليتيم وتأديبه وتعليمه.

كل ذلك من الصدقات البدنية العملية التي يتعدى نفعها إلى الغير، ومن ذلك إعفاف الزوجة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر المتقدم: «وفي بضع أحدكم صدقة». قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟.. الحديث.

وكذا كف شره عن الناس؛ فإنه صدقة يتصدق بها على نفسه.

الصدقات القولية:

ومن الصدقات القولية ما يتعدى نفعه إلى الغير؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الخير من تحفيظ القرآن وتعليم تلاوته، وتعليم العلم النافع للمسلمين، والدعاء لهم والاستغفار لهم، ففي هذا نفع عظيم للمسلمين، وربما كان أنفع وأعظم من الصدقة بالمال.

وهناك الصدقات الفعلية القاصر نفعها على صاحبها، كصلاة النوافل وكثرة الخطا إلى المساجد، وصيام النوافل، وكذلك الحج والعمرة، إلى غير ذلك من الأعمال التي تعتبر صدقة من الشخص على نفسه.

ومن ذلك كف الأذى أو الشر، وأعظم الشر هو الشرك بالله، وترك الواجبات من الطاعات، وكذا ارتكاب المعاصي والمنهيات؛ فذلك شر كله، فمن كفّ هذا الشر عن نفسه فقد تصدق كما جاء ذلك في الحديث كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: فإن لم يفعل؟ قال: «فليمسك عن الشر فإنه له صدقة».

وكذلك هناك صدقات قولية نفعها قاصر على صاحبها؛ وهي الأذكار من تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل، وقراءة القرآن وتلاوته وحفظه، وتعلّم السنة والحديث وحفظه، والتفقه في الدين، وتعلم العلم النافع، وإمساك اللسان عن الغيبة والنميمة، وعن التحدث فيما لا يعني.

شكر الله تعالى على نعمه:

هذه الصدقات التي يتصدق بها الإنسان المسلم على نفسه، سواء كانت مالية أم بدنية فعلية، أم قولية متعدية أم قاصرة؛ وإن كان يؤجر عليها ويُحَصِّل بها الحسنات ودرجات الجنة، فإنها مع ذلك يُقصد بها شكر الله تعالى على نعمه التي أنعمها على عبده، والحق أن نعم الله تعالى ليس لها عدٌّ ولا حصر؛ كما قال جل ذكره: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، والله تعالى طلب من عباده شكر نعمه، ورضي به عنهم، قال سليمان التيمي: إن الله تعالى أنعم على العباد على قَدْره، وكلّفهم الشكر على قدرهم حتى رضي منهم من الشكر بالاعتراف بقلوبهم بنعمه، وبالحمد بألسنتهم عليها. اهـ.

بل إن الله تعالى طلب من عباده شكر نعمه، ووعدهم على ذلك المزيد؛ قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].

فأما نعم الله تعالى على الإنسان فمنها: خلقه وحياته، ورزقه، وتدبير أمره، وتسخير الكون له، ومنها تفضله عليه بالصحة في بدنه؛ وفي الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ».[البخاري6412].

ومنها هذه الأعضاء الظاهرة من سمع وبصر، وكلام، وعقل يدرك؛ قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36]، وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد: 8- 9]، ومنحه يدين يبطش بهما، ورجلين يمشي عليهما، وخلقه في أحسن تقويم، فإذا نظر الإنسان في نفسه كما قال الله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، فإذا نظر في نفسه وجد أجهزة أدق من الأعضاء الظاهرة، وكل جهاز منها يعمل بدقة ونظام لا يتخلف؛ فمن فم يحتوي على لسان وأسنان يليه حلق ثم حنجرة تحتوي على أحبال صوتية، إلى رئتين تختصان بالتنفس، إلى قلب ينبض بنظام معين يسير منتظمًا ما دامت هناك حياة؛ فإذا توقف عن العمل مات الإنسان، ثم بعد ذلك كبد يقوم بعدة وظائف إذا تلف توقفت تلك الوظائف فتوقفت الحياة على إثر ذلك، ومعدة وأمعاء وظيفتها هضم الطعام وتحويل منافعه إلى الدم لتستفيد منه أجهزة الجسم، وفرز الفضلات الضارة لتخرج فيتخلص منها جسم الإنسان، وهناك جهازان صغيران عجيبان وهما الكليتان تقومان بوظيفة تنقية الدم من مواد ضارة، فإذا تلفت الكليتان رأينا جهازًا كبيرًا جدًّا حجمه أكبر من حجم الإنسان يؤدي وظيفة الكليتين، وقد لا يقوم مقامهما.

وبعدُ؛ فهل يستطيع الإنسان أن يؤدي شكر نعمة من هذه النعم التي أنعم الله تعالى بها عليه، والشكر ليس مجرد ألفاظ يرددها الإنسان، ولكن أعظم ما يشكر به رب العباد سبحانه هو توحيده وعدم الإشراك به، وطاعته وعدم معصيته، وذكره وعدم نسيانه، وشكره وعدم كفرانه، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها لما رأته يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، ويطيل السجود حتى ظنت أنه قُبض، فقالت: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال لها: «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟». [متفق عليه].

وروي عن الفضل بن عياضٍ رحمه الله أنه قرأ قول الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} فبكى، فسُئل عن بكائه، فقال: هل بتَّ ليلةً شاكرًا لله أن جعل لك عينين تبصر بهما؟ هل بت ليلة شاكرًا لله أن جعل لك لسانًا تنطق به، وجعل يعدد هذا الضرب.

والحق أن شكر الله تعالى على نعمه إنما هو من توفيق الله تعالى للعبد، فهو محض فضل لله تعالى، ولذلك كان ابن القيم رحمه الله تعالى يقول: «والتوفيق لشكر النعمة نعمة يعجز العبد عن شكرها».

نسأل الله تعالى أن يرزقنا شكر نعمته، ودوام العافية، وأن يبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وقواتنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، كما نسأله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

عدد المشاهدات 12314