الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هديه. وبعد:
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقلْ خيرًا أو لِيَصْمُتْ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، ومن كان يؤمن باللهِ واليومِ الآخرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ).
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في مواضع من صحيحه بتقديم وتأخير، واقتصار على بعض في موضع منها، هذه المواضع هي: الأول في كتاب النكاح باب (الوصاة بالنساء) برقم (5185)، والثاني في كتاب الأدب باب (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)، برقم (6018)، والثالث في كتاب الأدب أيضًا باب (إكرام الضيف وخدمته بنفسه)، برقمي (6136، 6138)، والأخير في كتاب الرقاق باب (حفظ اللسان) برقم (6475).
كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان باب (الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير، وكون ذلك كله من الإيمان)، برقم (47). وأخرجه أيضًا الإمام أبو داود في كتاب الأدب باب (في حق الجوار) برقم (5154)، وكذلك أخرجه الإمام الترمذي في صفة القيامة باب (حديث من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) برقم (2500)، وليس فيه ذكر الجار. كما أخرجه الإمام ابن ماجه في كتاب الفتن باب كف اللسان في الفتنة، برقم (3971) مقتصرًا على قول الخير، وأخرجه الإمام مالك في الموطأ عن أبي شريح الخزاعي برقم (1684)، والإمام أحمد في المسند في مسند أبي هريرة برقم (2/267، 433).
شرح الحديث
قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم: (هذا الحديث خرجاه من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفي بعض ألفاظها: (فَلا يُؤْذِ جَارَهُ)، وفي بعضها: (فَلْيُحْسِنْ قِرَى ضَيْفِهِ)، وفي بعضها: (فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) بدل ذكر الجار، وخرجاه أيضًا بمعناه من حديث أبي شريح الخزاعي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وابن مسعود وعبد الله بن عمرو وأبي أيوب الأنصاري وابن عباس وغيرهم من الصحابة.
وقال رحمه الله تعالى: فقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) فليفعل كذا وكذا، يدل على أن هذه الخصال من خصال الإيمان، وقد سبق أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان.
قال: وأعمال الإيمان تارة تتعلق بحقوق الله، كأداء الواجبات وترك المحرمات ؛ ومن ذلك قول الخير والصمت عن غيره، وتارة تتعلق بحقوق عباده كإكرام الضيف وإكرام الجار والكف عن أذاه، فهذه ثلاثة أشياء يؤمن بها المؤمن:
أولاً: قول الخير والصمت عما سواه:
وقد روى الطبراني من حديث أسود بن أصرم المحاربي قال: قلت: يا رسول الله، أوصني، قال: (هل تملك لسانك؟) قلت: ما أملك إذا لم أملك لساني؟ قال: (فهل تملك يدك؟) قلت: فما أملك إذا لم أملك يدي؟ قال: (فلا تقل بلسانك إلا معروفًا، ولا تبسط يدك إلا إلى خير). [حسنه الهيثمي في المجمع].
وقد ورد أن استقامة اللسان من خصال الإيمان، كما في المسند عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه). [وفي إسناده ضعف].
وخرج الطبراني من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنك لن تزال سالمًا ما سكتَّ، فإذا تكلمت كتب لك أو عليك). وفي المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صمت نجا).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليتلكم بالكلمة ما يتبين ما فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم).
وفي المسند وجامع الترمذي وسنن النسائي من حديث بلال بن الحارث المزني قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه).
قال الحافظ ابن رجب: فقوله صلى الله عليه وسلم: (فليقل خيرًا أو ليصمت): أمر بقول الخير، وبالصمت عما عداه، وهذا يدل على أنه ليس هناك كلام يستوي قوله والصمت عنه، بل إما أن يكون خيرًا؛ فيكون مأمورًا بقوله، وإما أن يكون غير خير فيكون مأمورًا بالصمت عنه، وقد روي عن أم حبيبة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلام ابن آدم عليه لا له، إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر الله عز وجل).
وقد قال الله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17، 18]، وقد أجمع السلف على أن الذي عن يمينه يكتب الحسنات، والذي عن شماله يكتب السيئات، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم يصلي فإنه يناجي ربه والمَلَكُ عن يمينه).
وروي من حديث حذيفة مرفوعًا: (إن عن يمينه كاتب الحسنات). واختلفوا هل يكتب كل ما تكلم به، أو لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب؟ على قولين مشهورين. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله: أكلت وشربت وذهبت وجئت، حتى إذا كان يوم الخميس عُرِضَ قوله وعمله، فأقر ما كان فيه من خير أو شر، وألقى سائره، فذلك قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39].
وعن يحيى بن أبي كثير قال: ركب رجل الحمار، فعثر به، فقال: تعس الحمار، فقال صاحب اليمين: ما هي حسنة فأكتبها، وقال صاحب الشمال: ما هي بسيئة فأكتبها، فأوحى الله إلى صاحب الشمال: ما ترك صاحب اليمين من شيء فاكتبه، فأثبت في السيئات: (تعس الحمار).
وظاهر هذا أن ما ليس بحسنة فهو سيئة، وإن كان لا يُعاقَبُ عليها، فإن بعض السيئات قد لا يُعاقب عليها، وقد تقع مُكَفَّرَةً باجتناب الكبائر، ولكن زمانها قد خسره صاحبها حيث ذهب باطلاً، فيحصل له بذلك حسرة في القيامة وأسف عليه، وهو نوع عقوبة.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة). وخرجه الترمذي ولفظه: (ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم، إلا كان عليهم ترة). وفي رواية لأبي داود والنسائي: (من قعد مقعدًا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضطجعًا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة). وخرج أيضًا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من قوم يجلسون مجلسًا لا يذكرون الله فيه إلا كانت عليهم حسرة يوم القيامة، وإن دخلوا الجنة). وقال بعض السلف: يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره، فكل ساعة لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات.
فمن هنا يعلم أن ما ليس بخير من الكلام، فالسكوت عنه أفضل من التكلم به، اللهم إلا ما تدعو الحاجة إليه مما لا بد منه، وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إياكم وفضول الكلام، حسب امرئ ما بلغ حاجته، وعن النخعي قال: يهلك الناس في فضول المال وفضول الكلام. وأيضًا فإن الإكثار من الكلام الذي لا حاجة إليه يوجب قساوة القلب.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أَوْلى به. وقال محمد بن عجلان: إنما الكلام أربعة: أن تذكر الله، وتقرأ القرآن، وتسأل عن علم فتخبر به، أو تكلم فيما يعنيك من أمر دنياك. وقال رجل لسلمان رضي الله عنه: أوصني، قال: لا تكلَّمْ، قال: ما يستطيع من عاش في الناس أن لا يتكلم، قال: فإن تكلمت فتكلمْ بحق أو اسكت.
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأخذ بلسانه ويقول: هذا أوردني الموارد. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: والله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض أحق بطول سجن من اللسان. وقال وهب بن منبه: أجمعت الحكماء على أن رأس الحكمة الصمت.
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالكلام بالخير والسكوت عما ليس بخير، وخرج الإمام أحمد وابن حبان من حديث البراء بن عازب أن رجلاً قال: يا رسول الله، علمني عملاً يدخلني الجنة، فذكر الحديث وفيه قال: (فأطعم الجائمع واسق الظمآن، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك فكفَّ لسانك إلا من خير).
وقال الفضيل بن عياض: ما حجٌّ ولا رباطٌ ولا جهادٌ أشدَّ من حبس اللسان، ولو أصبحت يهمك لسانك، أصبحت في غمّ شديدٍ، وقال: سجن اللسان سجن المؤمن.
وسُئل ابن المبارك عن قول لقمان لابنه: إن كان الكلام من فضة فإن الصمت من ذهب، فقال: معناه: لو كان الكلام بطاعة الله من فضة، فإن الصمت عن معصية الله من ذهب.
وهذا يرجع إلى أن الكفَّ عن المعاصي أفضل من عمل الطاعات. وتذاكروا عند الأحنف بن قيس، أيما أفضل: الصمت أم النطق؟ فقال قوم: الصمت أفضل، فقال الأحنف: النطق أفضل، لأن فضل الصمت لا يعدو صاحبه، والمنطق الحسن ينتفع به من سمعه.
وما أحسن ما قال عبيد الله بن أبي جعفر فقيه أهل مصر في وقته- وكان من الحكماء-: إذا كان المرء يحدِّث في مجلس فأعجبه الحديث فليسكت، وإذا كان ساكتًا فأعجبه السكوت فليحدث، وهذا حسن، فإن من كان كذلك كان سكوته وحديثه لمخالفة هواه وإعجابه بنفسه، ومن كان كذلك كان جديرًا بتوفيق الله إياه وتسديده في نطقه وسكوته، لأن كلامه وسكوته يكون لله عز وجل.
وعلى كل حال فالتزام الصمت مطلقًا، واعتقاده قربة إما مطلقًا أو في عبادة من العبادات كالحج والاعتكاف، والصيام منهي عنه، وفي سنن أبي داود من حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صمات يوم إلى الليل). وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لامرأة حجت مصمتة: إن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية.
وروي عن علي بن الحسين زين العابدين رحمه الله أنه قال: صوم الصمت حرام.
فالتعبد لله بالصمت بدعة.
ثانيًا: إكرام الجار
وفي بعض الروايات (النهي عن أذى الجار)، فأما أذى الجار فمحرم، فإن الأذى بغير حق محرم لكل أحد، ولكن في حق الجار هو أشد تحريمًا، وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئل: أي الذنب أعظم ؟ قال: (أن تجعل لله ندًا وهو خلقك)، قيل: ثم أيٌ؟ قال: (أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك). قيل: ثم أي؟ قال: (أن تزاني حليلة جارك).
وفي المسند وعند البخاري في الأدب المفرد وفي التاريخ، وعند الطبراني في الكبير والأوسط بسند جيد عن المقداد بن الأسود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تقولون في الزنى ؟) قالوا: حرام ؛ حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يزني الرجل بعشر نسوة، أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره). قال: (فما تقولون في السرقة؟) قالوا: حرمها الله ورسوله فهي حرام، قال: (لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره).
وفي صحيح البخاري عن أبي شريح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن). قيل: ومن يا رسول الله ؟ قال: (من لا يأمن جاره بوائقه)، وخرجه الإمام أحمد وغيره من حديث أبي هريرة.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله، إن فلانة تصلي الليل، وتصوم النهار، وفي لسانها شيء تؤذي جيرانها سليطة، قال: (لا خير فيها، هي في النار)، وقيل له: إن فلانة تصلي المكتوبة، وتصوم رمضان، وتتصدق بالأتواء(1)، وليس لها شيء غيره ولا تؤذي أحدًا، قال: (هي في الجنة). [أخرجه أحمد، في المسند والبخاري في الأدب المفرد، وابن حبان والحاكم وصححه، وهو كمال]، ولفظ الإمام أحمد: (ولا تؤي بلسانها جيرانها).
وخرج الحاكم وصححه من حديث أبي جحيفة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره، فقال له: (اطرح متاعك في الطريق). قال: فجعل الناس يمرون به فيلعنونه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله، ما لقيت من الناس، قال: (وما لقيت منهم؟) قال: يلعنوني، قال: (فقد لعنك الله قبل الناس).
وأخرج أبو داود بمعناه من حديث أبي هريرة، ولم يذكر فيه: (فقد لعنك الله قبل الناس).
وأما إكرام الجار والإحسان إليه فمأمور به، وقد قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} [النساء: 33]، فجمع الله تعالى في هذه الآية بين حقه تعالى على العبد وحقوق العباد على العبد أيضًا، ومن بين العباد الذين أمر بالإحسان إليهم من له حق القرب والمخالطة وجعلهم ثلاثة أنواع: جار ذو قربى، وجار جنب، وصاحب بالجنب.
وقد اختلف المفسرون في تأويل ذلك، فمنهم من قال: الجار ذو القربى: الجار الذي له قرابة، والجار الجنب: الأجنبي، ومنهم من أدخل الزوجة في الجار ذي القربى، ومنهم من أدخلها في الجار الجنب، ومنهم من أدخل الرفيق في السفر في الجار الجنب، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: (أعوذ بك من جار السوء في دار الإقامة، فإن جار البادية يتحول). [أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، وأحمد، وصححه الحاكم].
ومنهم من قال: الجار ذو القربى: الجار المسلم، والجار الجنب: الكافر.
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال: (إلى أقربهما منك بابًا).
وأما الصاحب بالجنب، ففسره طائفة بالزوجة، وفسره طائفة منهم ابن عباس رضي الله عنهما بالرفيق في السفر، ومقصودهم أن صحبة السفر تكفي، وإلا فإن الصاحب الملازم في الحضر أَوْلى، ولهذا قال سعيد بن جبير: هو الرفيق الصالح، وقال زيد بن أسلم: هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره). [أحمد في المسند والترمذي في جامعه، بسند حسن].
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، وابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). ومن أنواع الإحسان إلى الجار مواساته عند حاجته، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عند الحاكم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع). وفي رواية أخرى: (ما آمن من بات شعبان وجاره طاويًا).
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم: (إذا طبخت عرقًا فأكثر ماءه، ثم انظر إلى أهل بيت جيرانك فأصبهم منها بمعروف). وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك).
وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وجامع الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه ذبح شاة فقال: هل أهديتم منها لجارنا اليهودي؟ ثلاث مرات، ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره). ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم.
ثالثًا: إكرام الضيف
والمراد به إحسان ضيافته، وفي الصحيحين من حديث أبي شريح الخزاعي قال: أبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعته أذناي حين تكلم به، قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته). قالوا: وما جائزته ؟ قال: (يوم وليلة). قال: (والضيافة ثلاثة أيام، وما كان بعد ذلك فهو صدقة). وفي صحيح مسلم عن أبي شريح أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة، وما أنفق عليه بعد ذلك فهو لله صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يؤثمه). قالوا: يا رسول الله، وكيف يؤثمه؟ قال: (يقيم عنده ولا شيء له يقريه به).
وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه بإسناد صحيح عن المقدام بن معديكرب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليلة الضيف حق على كل مسلم، فمن أصبح بفنائه فهو عليه دين، إن شاء اقتضى وإن شاء ترك). وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله، إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقرونا، فما ترى ؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم).
وفي المسند وعند الحاكم بسند رجاله ثقات من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما ضيفٍ نزل بقوم فأصبح محرومًا فله أن يأخذ بتدقراه ولا حرج عليه). وقد عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: من لم يضف فليس من محمد ولا من إبراهيم. وقال عبد الله بن الحارث بن جَزْءٍ: من لم يكرم ضيفه فليس من محمد ولا من إبراهيم.
وقال أبو هريرة لقوم نزل عليهم فلم يضيفوه، فتنحى ونزل، فدعاهم إلى طعامهم فلم يجيبوه، فقال لهم: لا تُزلون الضيف ولا تجيبون الدعوة، ما أنتم من الإسلام على شيء، فعرفه رجل منهم، فقال له: انزل عافاك الله، قال: هذا شرّ وشرّ، لا تنزلون إلا من تعرفون.
قال الحافظ ابن رجب: هذه النصوص تدل على وجوب الضيافة يومًا وليلة، وهو قول الليث وأحمد، وقال حميد بن زنجويه: ليلة الضيف واجبة، وليس له أن يأخذ قراه منهم قهرًا، إلا أن يكون مسافرًا في مصالح المسلمين العامة دون مصلحة نفسه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه). يعني يقيم عنده حتى يضيق عليه، لكن هل هذا في الأيام الثلاثة أم فيما زاد عليها؟ فأما فيما ليس بواجب، فلا شك في تحريمه، وأما في ما هو واجب وهو اليوم واليلة فينبغي على أنه هل تجب الضيافة على من لا يجد شيئًا أم لا تجب إلا على من وجد ما يضيف به؟
فإن قيل: إنها لا تجب إلا على من يجد ما يضيف به- وهو قول طائفة من أهل الحديث- لم يحل للضيف أن يستضيف من هو عاجز عن ضيافته. وقد روي من حديث سلمان رضي الله عنه- بسند ضعيف- قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتكلف للضيف ما ليس عندنا. فإذا نهي المضيف أن يتكلف للضيف ما ليس عنده دل على أنه لا تجب عليه المواساة للضيف ما ليس عنده دل على أنه لا تجب عليه المواساة للضيف إلا مما عنده، فإذا لم يكن عنده فضل لم يلزمه شيء.
وأما إذا آثر على نفسه، كما فعل الأنصاري الذي نزل فيه قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، فذلك مقام فضل وإحسان، وليس بواجب.
ولو علم الضيف أنهم لا يضيفونه إلا بقُوتهم وقوت صبيانهم، وأن الصبية يتأذون بذلك، لم يجز له استضافتهم حينئذ عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يحرجه).
وأيضًا فالضيافة نفقة واجبة، فلا تجب إلا على من عنده فضل عن قوته وقوت عياله، كنفقة الأقارب، وزكاة الفطر.
نسأل الله تعالى أن يعيننا والمسلمين على حفظ ألسنتنا ولا نتكلم إلا فيما يعنينا، وأن يوفقنا والمسلمين إلى إكرام الجيران والإحسان إليهم وكف الأذى عنهم، وأن يعيننا ويسددنا ويوفقنا لإكرام الضيف وأن يحسن أخلاقنا ويحسن خاتمتنا، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.