الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام

2012-07-17

زكريا حسينى

الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام

 أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به" اللفظ للبخاري وفي رواية أخرى "ما أذن الله لشيء ما أذن للنبي يتغنى بالقرآن" وقال صاحب له يريد يجهر به، وقال سفيان تفسير يتغنى أي يستغني به

وفي رواية لمسلم "ما أذن الله لشيء كأَذَنِه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به" وفي رواية له "كَإِذنه"

هذا الحديث أخرجه البخاري في ثلاثة مواضع من صحيحه؛ الموضع الأول في باب من لم يتغن بالقرآن وقوله تعالى أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم تحت رقم ورقم مع اختلاف في الألفاظ يسير، وذلك في كتاب فضائل القرآن

 الموضع الثاني في كتاب التوحيد باب قول الله عز وجل "ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " ورقمه

الموضع الثالث في كتاب التوحيد أيضا باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "الماهر بالقرآن مع سفرة الكرام البررة وزينوا القرآن بأصواتكم" ورقمه

وأخرجه مسلم في كتاب "فضائل القرآن وما يتعلق به" باب "استحباب تحسين الصوت بالقرآن" بالأرقام من إلى مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ

 شرح الحديث

قوله صلى الله عليه وسلم "ما أذن الله لشيء" في رواية "لم يأذن الله لشيء" بنفي المضارع والأُولى بنفي الماضي ولا فرق بينهما من حيث المعنى، وفي رواية "لم يأذن الله لنبي" قال ابن حجر كذا بنون وموحدة باء لهم، وعند الإسماعيلي لشيء بشين معجمة وكذا عند مسلم من جميع طرقه ووقع في رواية سفيان كالجمهور وفسر سفيان التغني بالاستغناء

قوله "ما أذن لنبي" كذا للأكثر، وعند أبي ذر "للنبي" بزيادة اللام، قال ابن حجر فإن كانت محفوظة فهي للجنس أي اللام ووهم من ظنها للعهد، وتوهم أن المراد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال ما أذن للنبي صلى الله عليه وسلم وشرحه على ذلك

قوله "أن يتغنى" كذا لهم، قال ابن حجر وأخرجه أبو نعيم من وجه آخر عن يحيى بن بكير شيخ البخاري فيه بدون "أن" وزعم ابن الجوزي أن الصواب حذف "أن"

وقد سبق تفسير سفيان بن عيينة التغني بالاستغناء

قوله "وقال صاحب له يجهر به" الضمير في له يرجع لأبي سلمة، والصاحب المذكور هو عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، بينه الزَّبِيدي عن ابن شهاب في هذا الحديث أخرجه ابن أبي داود عن محمد بن يحيى الذهلي في "الزهريات"

وأما تفسير سفيان بن عيينة التغني بالاستغناء فقال ابن حجر يمكن أن يستأنس له بما أخرجه أبو داود وابن الضريس وصححه أبو عوانة عن ابن أبي مليكة عن عبيد الله بن أبي نهيك قال لقيني سعد بن أبي وقاص وأنا في السوق فقال تجارٌ كَسَبَةٌ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ليس منا من لم يتغن بالقرآن"

وقد ارتضى أبو عبيد تفسير يتغنى بيستغني وقال إنه جائز في كلام العرب، فعلى هذا يكون المعنى من لم يستغن بالقرآن عن الإكثار من الدنيا فليس منا، أي على طريقتنا واحتج أبو عبيد أيضا بقول ابن مسعود "من قرأ سورة آل عمران فهو غني" ونحو ذلك

وقال ابن الجوزي اختلفوا في معنى قوله يتغنى على أربعة أقوال؛ أحدها تحسين الصوت والثاني الاستغناء، والثالث التحزن قاله الشافعي، والرابع التشاغل به تقول العرب تغنى بالمكان أقام به، قلت القائل ابن حجر وفيه قول آخر حكاه ابن الأنباري في "الزاهر" قال المراد به التلذذ والاستحلاء له كما يستلذ أهل الطرب بالغناء، وفيه قول آخر حسن وهو أن يجعله هِجِّيرَاهُ كما يجعل المسافر والفارغ هجيراه الغناء، قال ابن الأعرابي كانت العرب إذا ركبت الإبل تتغنى وإذا جلست في أفنيتها وفي أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هِجِّيراهم القراءة مكان التغني

والذي يترجح من هذه الأقوال القول الأول وهو تحسين الصوت بالقراءة، فقد استدل أبو عاصم النبيل على تعيينه لهذا المعنى بما رواه بسنده عن عبيد بن عمير قال "كان داود عليه السلام يتغنى ـ يعني حين يقرأ ـ ويَبْكي ويُبكِي" وعن ابن عباس أن داود كان يقرأ الزبور بسبعين لحنًا، ويقرأ قراءة يطرب منها المحموم وكان إذا أراد أن يبكي نفسه لم تبق دابة في بر ولا بحر إلا أنصتت له واستمعت وبكت

قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ بعد أن ساق الأقوال وحججها وفي الجملة ما فسر به ابن عيينة ليس بمدفوع، وإن كانت ظواهر الأخبار ترجح أن المراد تحسين الصوت، ويؤيده قوله "يجهر به" فإنها إن كانت مرفوعة قامت الحجة، وإن كانت غير مرفوعة فالراوي أعرف بمعنى الخبر من غيره ولا سيما إذا كان فقيهًا، وقد جزم الحليمي أنها من قول أبي هريرة

ثم قال ابن حجر ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم، لأن للتطريب تأثيرًا في رقة القلب وإجراء الدمع وكان بين السلف اختلاف في جواز القراءة بالألحان، أما تحسين الصوت وتقديم حسن الصوت على غيره فلا نزاع في ذلك ومحل الاختلاف في القراءة بالألحان إذا لم يختل شيء من الحروف عن مخرجه، فلو تغير قال النووي في التبيان أجمعوا على تحريمه، ولفظه أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط، فإن خرج حتى زاد حَرفًا أو أخفاه حرم

قال ابن حجر بعد أن ساق كلام العلماء مفصلا ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام، لأن الغالب على من راعى الأنغام ألا يراعي الأداء، فإن وجد من يراعيهما معًا فلا شك في أنه أرجح من غيره لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت ويجتنب الممنوع من حرمة الأداء والله أعلم انتهى من فتح الباري بتصرف

والحديث كما ترى أخي المسلم ساقه الإمام البخاري في كتاب فضائل القرآن، وفي كتاب التوحيد من صحيحه، وهذا الشرح المتقدم خاص بالندب لتحسين الصوت بالقرآن، وأما عن إيراد الحديث في كتاب التوحيد والرد على الجهمية فأريد به النص على إثبات صفة السمع لله تعالى، كما في قوله "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي " إلخ الحديث فمعنى "ما أذن" أي ما استمع، وصفة السمع ثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنة وأقوال السلف في ذلك، فأما الكتاب فالآيات التي تثبت السمع لله عز وجل كثيرة في نحو خمسين موضعًا، منها قوله تعالى قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ المجادلة وأما من السنة فالأحاديث كثيرة أيضًا منها الحديث الذي معنا، وحديث عائشة قالت الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا الآية أخرجه أحمد والبخاري تعليقًا بصيغة الجزم في كتاب التوحيد باب وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا

وحديث أبي موسى عند البخاري قال كنا مع النبي في سفر، فكنا إذا علونا كبرنا، فقال "أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، تدعون سميعًا بصيرًا قريبًا " الحديث، وحديث عائشة عند البخاري أيضًا قال النبي "إن جبريل ناداني قال إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك" والأحاديث في هذا الباب كثيرة

وأما أقوال السلف فمنها قول ابن خزيمة وتدبروا أيها العلماء ومقتبسوا العلم مخاطبة خليل الرحمن أباه وتوبيخه إياه لعبادة ما كان يعبد فاعقلوا بتوفيق خالقنا جل وعلا صحة مذهبنا وبطلان مذهب مخالفينا من الجهمية المعطلة، قال خليل الرحمن لأبيه لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، أفليس من المحال يا ذوي الحجا أن يقول خليل الرحمن لأبيه آزر لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ ويعيبه بعبادة ما لا يسمع ولا يبصر، ثم يدعوه إلى عبادة من لا يسمع ولا يبصر كالأصنام التي هي من الموتان لا من الحيوان، فكيف يكون ربنا الخالق البارئ السميع البصير، كيف يكون كما يصفه هؤلاء الجهال، عز ربنا وجل أن يكون غير سميع ولا بصير، فهم كعابدي الأوثان أو كعابدي الأنعام أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً فأعلمنا عز وجل أن من لا يسمع ولا يعقل كالأنعام بل هم أضل سبيلاً كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب ص بتصر

وقال القسطلاني في إرشاد الساري "وقد علم بالضرورة من الدين، وثبت في الكتاب والسنة بحيث لا يمكن إنكاره ولا تأويله أن الباري تعالى حي سميع بصير، وانعقد إجماع أهل الأديان، بل جميع العقلاء على ذلك" ج، ص نقلاً عن شرح كتاب التوحيد للشيخ الغنيمان

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى "فالسمع والبصر والحياة والعلم والقدرة والكلام ونحوها صفات كمال لا نقص فيها، فمن اتصف بها أكمل ممن لم يتصف بها، والنقص في انتفائها لا في ثبوتها بإجماع العقلاء" ج ص

قال ابن حجر في الفتح "قال ابن بطال غرض البخاري من هذا الباب الرد على من قال إن معنى "سميع بصير" عليم، قال ويلزم من قال ذلك أن يسويه بالأعمى الذي يعلم أن السماء خضراء ولا يراها، والأصم الذي يعلم أن في الناس أصواتًا ولا يسمعها، ولا شك أن من سمع وأبصر أدخل في صفة الكمال ممن انفرد بأحدهما دون الآخر، فصح أن كونه سميعًا بصيرًا يفيد قدرًا زائدًا على كونه عليمًا، وكونه سميعًا بصيرًا، يتضمن أنه يسمع بسمع ويبصر ببصر، كما تضمن كونه عليمًا أنه يعلم بعلم، ولا فرق بين إثبات كونه سميعًا بصيرًا وبين كونه ذا سمع وبصر، وهذا قول أهل السنة قاطبة" ج ص

وقال البيهقي السميع من له سمع يدرك به المسموعات، والبصير من له بصر يدرك به المرئيات، وكل منهما في حق الباري صفة قائمة بذاته الاعتقاد ص

روى أبو داود بسند على شرط مسلم عن أبي هريرة أنه قرأ قول الله تعالى وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا فوضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه، وقال رأيت رسول الله يقرأ ويضع أصبعيه سنن أبي داود ج، ص

قال البيهقي عقب روايته لهذا الحديث "والمراد بالإشارة في هذا الخبر تحقيق الوصف لله عز وجل بالسمع والبصر، فأشار إلى محل السمع والبصر منا لإثبات صفة السمع والبصر لله تعالى وأفاد هذا الخبر أنه سميع بصير، له سمع وبصر، لا على معنى أنه عليم، إذ لو كان بمعنى العلم لأشار في تحقيقه إلى القلب لأنه محل العلوم منا" الأسماء والصفات ص

ومن ذلك يتبين لك أخي المسلم أن الله تعالى سميع بسمع، لا كما تقول المعتزلة سميع بلا سمع، ولا كما تقول الجهمية سميع بمعنى عليم، ولا كما تقول الأشاعرة سميع بلا أذن

فأما الأُذُنُ فإن لفظها لم يرد لا في كتاب ولا في سنة مضافًا إلى الله تعالى لا إثباتًا ولا نفيًا، فيجب علينا أن نسكت عنها ولا نلفظ بها مضافة إلى ربنا جل وعلا لا إثباتًا ولا نفيًا، كما هو مقرر أن ما أثبته الله عز وجل لنفسه أو أثبته له رسوله وجب علينا أن نثبته، وما نفاه الله عز وجل عن نفسه أو نفاه عنه رسوله وجب علينا أن ننفيه، وما لم يرد في الكتاب أو السنة لا إثباتًا ولا نفيًا وجب علينا أن نمسك عنه ولا نتكلم به

والله عز وجل يعصمنا من الزلل ويقينا الخطأ والخطل في الاعتقاد والعمل

والحمد لله أولاً وآخرًا، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه

عدد المشاهدات 11718