خروج الموحدين من النار بشفاعة النبي المختار – الحلقة الثانية -

2012-09-02

زكريا حسينى

خروج الموحدين من النار بشفاعة النبي - الحلقة الثانية -

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:

فقد قدمنا في العدد الماضي (عدد شوال 1430هـ) نص حديث الشفاعة عن أنس بن مالك، ثم تخريج الحديث، ثم أوردنا أسماء بعض الصحابة الذين رووا حديث الشفاعة وهم عشرة: أنس، وابن عباس، وابن مسعود، وعبادة بن الصامت، وسلمان الفارسي، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وحذيفة، وأبو بكر الصديق، وعبد الله بن عمر، كما أوردنا قولة عبيد بن عمير لأحد الخوارج وهو هارون أبو موسى: لو لم أسمعه من ثلاثين من أصحاب محمد لم أحدث به.

ثم أوردنا بعد ذلك اختلاف ألفاظ الحديث كما أشار إليها الحافظ في الفتح وذلك من باب التوثيق، وأن الروايات يفسر بعضها بعضًا، ثم ذكرنا ثالثًا: الميزان المذكور في الحديث لكل واحد من الرسل الذين يستشفع الناس بهم إلى ربهم يوم القيامة لينصرفوا من الموقف وذلك لهول ما هم فيه، ولم نكمل الميزات فقد أوردنا ميزات آدم ثم ميزات نوح، وفي هذا المقال نكمل الحديث عن هذه الميزات فنقول:

وأما إبراهيم عليه السلام فذكر في الحديث أنه اتخذه الله خليلاً، والخُلَّةُ درجة أعلى من المحبة على المشهور، فإبراهيم خليل الله من أهل الأرض وهذه خصوصية لم يشاركه فيها إلا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ، فهي ثابتة لإبراهيم عليه السلام بنص القرآن الكريم، قال تعالى: «واتخذ الله إبراهيم خليلا»، وكذا هي ثابتة لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- بالسنة، فقد صح عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: «لو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله».

وأما موسى عليه السلام، فقد جاء في الحديث برواياته أنه كليم الله، وأن الله تعالى أعطاه التوراة وقربه نجيًا، فموسى كلمه الله تعالى بلا واسطة، ويشاركه في ذلك رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- فإنه ثبتت له الرؤيا والسماع بلا واسطة، وأما باقي الأنبياء فبواسطة جبريل عليه السلام، وأعطاه الله تبارك وتعالى التوراة وكثيرًا ما تقرن التوراة بالقرآن، فالتوراة كتبها الله بيده، ونزلت ألواحًا مكتوبة من عند الله تعالى، وقربه الله تعالى نجيًا أي كلمه عن قرب بلا واسطة.

وأما عيسى عليه السلام فجاء في الحديث أنه عبد الله ورسوله وكلمته...، وأنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، فأما أنه عبد الله ورسوله فهذا يشاركه فيه كل المرسلين أنهم عباد الله تعالى ورسله، وقد ثبتت عبودية عيسى عليه السلام لله تبارك وتعالى بالكتاب والسنة، وفي ذلك أبلغ الرد على النصارى الذين اعتقدوا أن عيسى إله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، بل قال الله تعالى فيه: «إن هو إلا عبد أنعمنا عليه». وكذا عدَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من شهد بذلك ممن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فيكون قد حقق الركن الأول من أركان الإسلام، وأما أنه كلمة الله فهو مخلوق بكلمة الله تعالى: «كن» ليس كبقية البشر الذين خُلقوا من أبوين ذكر وأنثى، ولذلك قال تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }، وأما أنه روح الله، فإنه نفخة من روح الله كما قال تعالى: { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا }. وأما أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، فذلك بإذن الله تعالى، وهذا من المعجزات التي أيده الله تبارك وتعالى ليؤمن به بنو إسرائيل ويتركوه ولا يقتلوه كما قتلوا غيره من الأنبياء، ومع ذلك أصروا على قتله وعزموا على ذلك لولا أن الله تعالى رفعه إليه فلم يصلوا إليه ولم يقتلوه ولم يصلبوه.

وأما نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد جاء في الحديث أنه عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأنه خاتم النبيين، فأما أنه غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقد نقل الحافظ في الفتح عن القاضي عياض أن العلماء اختلفوا في تأويل ذلك، فقيل: المتقدم ما قبل النبوة والمتأخر العصمة، وقيل: ما وقع عن سهو أو تأويل، وقيل: المتقدم ذنب آدم والمتأخر ذنب أمته، وقيل: المعنى أنه مغفور له غير مؤاخذ بذنب لو وقع، وقيل غير ذلك، وعقب اللفظ بعد هذا الكلام بقوله: واللائق بهذا المقام القول الرابع، وأما الثالث فلا يتأتى هنا.

قال الحافظ: ويستفاد من قول عيسى عليه السلام هذا في حق نبينا، ومن قول موسى عليه السلام فيما تقدم: «إني قتلت نفسًا بغير نفس وإن يغفر لي اليوم حسبي». مع أن الله تبارك وتعالى غفر له بنص القرآن، التفرقة بين من وقع منه شيء ومن لم يقع منه شيء أصلاً، فإن موسى عليه السلام مع وقوع المغفرة له لم يرتفع إشفاقه من المؤاخذة بذلك، ورأى في نفسه تقصير أي عن مقام الشفاعة مع وجود ما صدر منه، بخلاف نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في ذلك كله، ومن ثم احتج عيسى بأنه صاحب الشفاعة لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، بمعنى أن الله تعالى أخبر أنه لا يؤاخذه بذنب لو وقع منه. اهـ.

رابعًا: الخطايا التي نسبت لكل واحد من هؤلاء المرسلين:

أما خطيئة آدم عليه السلام فهي أنه أكل من الشجرة التي نهاه الله تعالى عن قربانها والأكل منها، قال تعالى: { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } [البقرة: 34]، وقال تعالى في سورة طه: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى (120) فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 120، 121].

وأما خطيئة نوح عليه السلام فإنه دعا على قومه قال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} [نوح: 28]. وجاء في الحديث أنه عليه السلام يذكر سؤال ربه ما ليس له به علم.

وأما إبراهيم عليه السلام فقال كما جاء في بعض روايات الحديث: «إني كنت كذبت ثلاث كذبات». وقد فسرت في بعض الروايات: «قوله: { إِنِّي سَقِيمٌ }، وقوله: { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } ، وقوله لامرأته : أخبريه أني أخوك».

وأما موسى عليه السلام فخطيئته أنه قتل بغير نفس كما جاء على لسانه في بعض روايات الحديث، وفي بعضها: «إني قتلت نفسًا لم أومر بقتلها».

وأما عيسى عليه السلام فكما جاء في بعض روايات الحديث: «ولم يذكر ذنبًا»، لكن وقع في حديث أبي سعيد عند الترمذي: «إني عُبدتُ من دون الله».

خامسًا: عصمة الأنبياء:

هذه خطايا نسبت لهؤلاء المرسلين فهل تتنافى مع عصمتهم ؟ فإن الأنبياء كلهم معصومون كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى عن القاضي عياض كلامًا مؤداه: أنه لا خلاف في عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكفر والشرك بعد النبوة، وكذا قبل النبوة على الصحيح، وكذلك هم معصومون من ارتكاب الكبيرة قبل النبوة وبعدها، قال: ويلتحق بالكبيرة ما يزري بفاعله من الصغائر، وكذا القول في كل ما يقدح في الإبلاغ من جهة القول. واختلفوا في الفعل فمنعه بعضهم حتى في النسيان، وأجاز الجمهور السهو لكن بدون التمادي، واختلفوا فيما عدا ذلك من الصغائر، فذهب جماعة من أهل النظر إلى أنهم معصومون منها مطلقًا، وأولوا الآيات والأحاديث الواردة في ذلك بأنواع من التأويل، ومن جملة ذلك أن الصادر عنهم إما أن يكون بتأويل من بعضهم أو بسهوٍ أو بإذن، والأنبياء المذكورون في الحديث يعلمون ذلك، لكن خشوا ألا يكون ذلك موافقًا لمقامهم، فأشفقوا من المؤاخذة أو المعاتبة، وكان من قبيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

كما قيل في ذلك: قال: وهو أرجح الأقوال، وليس هو مذهب المعتزلة، وإن قالوا بعصمتهم مطلقًا؛ لأن منزعهم في ذلك التكفير بالذنوب مطلقًا ولا يجوز على النبي الكفر، قال: ومنزعنا أن أمة النبي مأمورة بالاقتداء به في أفعاله، والأنبياء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وغير جائز أن يفعل النبي ما ينهى عنه قومه.

وأما ما وقع في حديث الباب وغيره من النصوص فلا يخرج عن ما قلناه: فأكل آدم من الشجرة كان عن سهو، وطلب نوح نجاة ولده كان عن تأويل فإن الله عز وجل كان وعده بنجاة أهله، ومقالات إبراهيم كانت معاريض وما أراد بها إلا الخير، والرجل الذي قتله موسى كان كافرًا، والحجة أن موسى لم يُرِدْ قتله لكن لما وكزه قضى عليه.

سادسًا: منكرو الشفاعة

عن أنس رضي الله عنه قال: يخرج قوم من النار، ولا نكذب بها كما يكذب بها أهل حروراء يعني الخوارج، وقال ابن بطال: أنكرت المعتزلة والخوارج الشفاعة في إخراج من أدخل النار من المذنبين وتمسكوا بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}، ومنها قوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20]، وقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران: 192]، إلى غير ذلك من الآيات.

وقد أخرج سعيد بن منصور في سننه بسند صحيح كما قال الحافظ في الفتح – عن أنس رضي الله عنه: «من كذَّب بالشفاعة فلا نصيب له فيها».

وأخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب عمر رضي الله عنه فقال:إنه سيكون في هذه الأمة قوم يكذبون بالرجم، ويكذبون بالدجال، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بقوم يخرجون من النار. وأقول: صدق والله ابن الخطاب؛ قد وجد في زماننا هذا من هم امتداد لأسلافهم من المعتزلة والخوارج في التكذيب بهذه الخمس أو ببعضها، فقد تصدى ويتصدى كثير ممن يسمون بالمفكرين الإسلاميين أو القرآنيين ومن على شاكلتهم بنشر باطلهم في وسائل الإعلام المختلفة والمتنوعة في تخريب عقائد المسلمين بحجة أنه لا يوجد في القرآن، أو أنه يوجد في القرآن ما يناقض الإيمان بهذه الأمور الغيبية، منزلين آيات الوعيد التي أنزلت في الكفار ينزلونها على عصاة الموحدين، وأخرج البيهقي في «البعث» من طريق شبيب بن أبي فضالة: ذكروا عن عمران بن حصين – رضي الله عنهما – الشفاعة، فقال رجل: إنكم لتحدثوننا بأحاديث لا نجد لها أصلاً في القرآن، فغضب عمران رضي الله عنه وذكر كلامًا معناه أن الحديث يفسر القرآن.

سابعًا: رد أهل السنة على منكري الشفاعة

قال صاحب معارج القبول رحمه الله: فهذه الشفاعة حق يؤمن بها أهل السنة والجماعة كما آمن بها الصحابة رضوان الله عليهم ودرج على الإيمان بذلك التابعون لهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأنكرها في آخر عصر الصحابة الخوارج، وأنكرها في عصر التابعين المعتزلة، وقالوا بخلود من دخل النار من عصاة الموحدين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ويشهدون أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويصومون رمضان، ويحجون البيت الحرام، ويسألون الله الجنة، ويستعيذون بالله من النار في كل صلاة ودعاء، غير أنهم ماتوا مصرين على معصية عملية، عالمين بتحريمها معتقدينه، مؤمنين بما جاء فيها من الوعيد الشديد، فقضوا بتخليدهم في جهنم مع فرعون وهامان وقارون، فجحدوا قول الله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، وقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35، 36].

ثامنًا: الآيات والأحاديث الواردة في إثبات الشفاعة:

الآيات القرآنية:

1- قال الله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] المخاطب هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، والمقام المحمود هو الشفاعة كما أجاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما قال -صلى الله عليه وسلم- عندما سُئل عن المقام المحمود، قال: «هو الشفاعة».

2- قال الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال جل ذكره: {مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وقال جل ثناؤه: {وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، وقال تبارك وتعالى: {يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه: 109]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28].

ولقد وردت أحاديث كثيرة في إثبات الشفاعة بلغت حد التواتر، منها حديث أنس هذا الذي نحن بصدد شرحه، ومنها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما كما في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة».

ومنها حديثه رضي الله عنه كما في صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : «لكل نبي دعوة قد دعاها في أمته، وخُبِّئت دعوته شفاعة لأمتي يوم القيامة».

ومثله في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، ومنها ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : «لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وإنني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلتهم إن شاء الله تعالى، من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا».

ومنها حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه كما في صحيح مسلم: «من سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة».

ومنها حديث جابر رضي الله عنه كما في صحيح البخاري: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلت له شفاعتي». وغير ذلك من الأحاديث.

تاسعًا : أنواع الشفاعة

الأولى : الشفاعة العظمى : وهي خاصة بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يشاركه فيها أحد ، وهي شفاعته لأهل الموقف أن يفصل الله تعالى بينهم ، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وذلك لهول ما هم فيه من شدة وتعب فيستشفع الناس بالأنبياء، فيرده كل نبي إلى من بعده ، حتى يردوا إلى خاتم المرسلين -صلى الله عليه وسلم- فيشفع للناس عند ربه سبحانه وتعالى ليفصل بين العباد، وفيها وردت الأحاديث ومنها حديثنا الذي معنا والذي نحن بصدد شرحه .

الشفاعة الثانية : في استشفاع باب الجنة : وهي من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- أيضًا لا يشاركه فيها أحد ، وهي كذلك من المقام المحمود ، كما ثبت في الأحاديث، فمن هذه الأحاديث ما ثبت في صحيح مسلم: عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : «أنا أول الناس يشفع في الجنة ، وأنا أكثر الأنبياء تبعًا». وفي رواية له : «أنا أكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة ، وأنا أول من يقرع باب الجنة» . وكما في حديث أنس أيضًا رضي الله عنه عند مسلم قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «آتي باب الجنة يوم القيامة فاستفتح فيقول الخازن: من أنت ؟ قأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك».

الشفاعة الثالثة: شفاعته -صلى الله عليه وسلم- لمن ماتوا على الإسلام، وكانوا على هدى مستقيم، لكن أوبقتهم الذنوب والمعاصي والآثام فأدخلوا النار ليطهروا من ذنوبهم، فيشفع فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ليخرجوا من النار ويدخلوا الجنة، وقد سبق الكلام على هذه الشفاعة عند إيراد رد أهل السنة على منكري الشفاعة، وهي أخص ما ينكره المنكرون، وبحمد الله يؤمن بها الموحدون وتشملهم ويستفيد منها بفضل الله تبارك وتعالى وبعدم شركهم بالله تعالى، وهذه الشفاعة ليست خاصة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بل يشاركه فيها غيره من المرسلين ومن عباد الله الصالحين، فيخرج الله تعالى بشفاعاتهم من النيران كل من مات على الإيمان، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : «أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناسًا أصابتهم النار بذنوبهم، أو قال: بخطاياهم فأماتهم إمامة حتى إذا كانوا فحمًا أُذِن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر فنبتوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل». فقال رجل من القوم: كأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد كان بالبادية.

وثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد أيضًا رضي الله عنه الحديث الطويل في الشفاعة، وفي آخره: فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي فيقبض قبضة من النار فيخرج قومًا قد امتحشوا فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له: ماء الحياة، فينبتون في حافيته كما تنبت الحبة في حميل السيل... الحديث.

هذا هو المشهور، نقل الحافظ ابن حجر عن الإمام النووي – قال: قال للقاضي عياض: الشفاعة خمس: في الإراحة من هول الموقف، وفي إدخال الجنة بغير حساب، وفي إدخال قوم حوسبوا فاستحقوا العذاب أن لا يعذبوا، وفي إخراج مَن أُدخل النار من العصاة، وفي رفع الدرجات. ودليل الأولى هو الحديث الذي معنا أصل المقال، ودليل الثانية قول الله تعالى في جواب قوله -صلى الله عليه وسلم- : «أمتي أمتي»: أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليهم. قال ابن حجر: ويظهر لي أن دليلها سؤاله -صلى الله عليه وسلم- الزيادة على السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، فأجيب: ودليل الثالثة قوله في حديث حذيفة عند مسلم: «ونبيكم على الصراط يقول: رب سلم سلم». ودليل الرابعة مرَّ ذكره في الشفاعة الثالثة التي مضت مفصلة، ودليل الخامسة قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أنس عند مسلم: «أنا أول شفيع في الجنة. قال الحافظ: كذا قاله بعض من لقيناه، وقال: وجه الدلالة منه أنه جعل الجنة ظرفًا لشفاعته، قال الحافظ: قلت: وفيه نظر بل هي ظرف لشفاعته الأولى المختصة به -صلى الله عليه وسلم- والذي يطلب هنا أن يشفع لمن لم يُبَلُغِّه عمله درجة عالية أن يبلغها بشفاعته، وأشار القاضي عياض إلى استدراك شفاعة سادسة وهي التخفيف عن أبي طالب، ومستنده حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند مسلم: «أهون أهل النار عذابًا أبو طالب»، وزاد بعضهم شفاعة سابعة وهي الشفاعة لأهل المدينة لحديث سعد رفعه : «لا يثبت على لأوائها أحد إلا كنت له شهيدًا أو شفيعًا». قال الحافظ: وهي غير واردة لأن متعلقها لا يخرج عن واحدة من الخمس الأول، وزاد القزويني شفاعته -صلى الله عليه وسلم- لجماعة من الصلحاء في التجاوز عن تقصيرهم ولم يذكر مستندها، قال: ويظهر لي أنها تندرج في الخامسة، وزاد القرطبي أنه أول شافع في دخول أمته الجنة قبل الناس، ودليلها مذكور في حديث الشفاعة الطويل. قال الحافظ: وظهر لي بالتتبع شفاعة أخرى وهي الشفاعة فيمن استوت حسناته وسيئاته أن يدخل الجنة، ومستندها ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «السابق يدخل الجنة، والمقتصد يرحمه الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلونها بشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- . قال: وشفاعة أخرى وهي شفاعته فيمن قال: لا إله إلا الله ولم يعمل خيرًا قط. قال: فالوارد على الخمس أربع، وما عداها لا يرد. والله أعلم.

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.

عدد المشاهدات 12157