خروج الموحدين من النار بشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم – الحلقة الثالثة -

2012-09-02

زكريا حسينى

خروج الموحدين من النار بشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- – الحلقة الثالثة -

الحمد لله رب العالمين، نحمده حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على خير خلقه وخاتم أنبيائه وإمام رسله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

وبعد:

فقد تكلمنا في العددين السابقين عن حديث أنس بن مالك في الشفاعة، وما تعلق به من حيث التخريج، ومعرفة من رواه من الصحابة، ثم اختلاف ألفاظ الحديث كما جاءت في رواياته، وبعدها تكلمنا عن ميزان كل رسول من الرسل الذين يستشفع بهم الخلق إلى ربهم، ثم كان الحديث عن الخطايا المنسوبة لكل واحد منهم وعصمة الأنبياء، ثم الكلام عن منكري الشفاعة ورد أهل السنة عليهم وإيراد النصوص القرآنية والحديثية الواردة في إثبات الشفاعة، ثم تكلمنا عن أنواع الشفاعة، وبقي الحديث عما ورد في الحديث من صفات الله تعالى ومن رؤية الله عز وجل يوم القيامة، فنقول مستعينين بالله تعالى:

عاشرًا: الأوصاف التي وردت لله في الحديث:

أ- قوله في الحديث: «يا آدم خلقك الله بيده» في أربعة مواضع .

هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه في أربعة مواضع ضمن المواضع التي أخرجها فيها، وقد ترجم له في هذا الموضع بقوله: «باب قول الله تعالى: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75].

وأورد البخاري رحمه الله تعالى بيان ما أثبته الله تعالى لنفسه وأثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم- من صفة اليدين على ظاهر ما نطقت به النصوص المتنوعة الدلالة، قال الله تعالى: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} . وقال تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وقال تعالى لإبليس: { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، وقال تعالى: { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}، وقال سبحانه: { بِيَدِهِ الْمُلْكُ}، وقال جل جلاله: { بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} في أكثر من موضع من القرآن الكريم، والأحاديث في ذلك كثيرة .

قال الشيخ عبد الله الغنيمان في شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري: وقد اضطرب أهل التأويل في تأويلهم اليد اضطرابًا شديد يدل على أنهم على باطل، قال: والعاقل المنصف يعجب إذا رأى ما كتبه الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الباب، فإنه ذكر بعض أقوال أئمة الأشعرية، ثم قال: واليد في اللغة تطلق لمعان كثيرة، اجتمع لنا منها خمسة وعشرون معنى، وساقها واحدًا واحدًا مستدلاً أو ممثلاً لبعضها، قال الشيخ الغنيمان: والنصوص في هذا الباب جاءت معينةً معنى واحدًا لا غير، هو يدا الله الكريمتين، وما عدا ذلك فهو بهتان عظيم . اهـ .

ولقد ساق الإمام البخاري بعد هذا الحديث في الباب نفسه ثلاثة أحاديث هي:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يده». وقال: «وكان عرشه على الماء وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع». [ح: 7411].

وحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن الله يقبض يوم القيامة الأرض، وتكون السماوات بيمينه ثم يقول: أنا الملك». [ح: 7412].

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يقبض الله الأرض». [ح: 7413].

وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن يهوديًا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فقال: يا محمد، إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك . فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه . ثم قرأ: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} . قال يحيى بن سعيد: وزاد فيه فضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم عن عَبِيدة عن عبد الله: فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعجبًا وتصديقًا له. [ح: 7414].

وحديث ابن مسعود من طريق آخر قال عبدالله جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ضحك حتى بدت نواجذه، ثم قرأ: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [ح: 741].

وهذه الأحاديث تدل على عظمة الله تبارك وتعالى حيث يضع السماوات كلها على إصبع من أصابع يده الكريمة العظيمة الجليلة، وعَدَّ المخلوقات المعروفة للخلق بالكبر والعظمة، وأخبر أن كل نوع منها يضعه رب العالمين على إصبع، ولو شاء سبحانه لوضع السماوات والأرضين ومن فيهن وما فيهن على إصبع واحدة من أصابع يده عز وجل .

وحديث ابن مسعود رضي الله عنه عن الرجل أو الحبر اليهودي يتبين منه أن هذا علم موروث عن الأنبياء متلقى من الوحي عن الله تبارك وتعالى، ولهذا صدقه النبي -صلى الله عليه وسلم- ، بل وأعجبه ذلك وسُرَّ به، ولذلك ضحك حتى بدت نواجذه – تصديقًا له كما قال ابن مسعود رضي الله عنه، ولا ينبغي أن يلتفت إلى قول أهل التعطيل الذين لا يعرفون من هذه الأوصاف إلا ما يعرفونه من أنفسهم، فحملهم ذلك على تعطيل الله عز وجل عن هذه الأوصاف وذلك بردهم النصوص والطعن في رواتها حينًا، وأحيانًا بتأويلها التأويل الباطل الذي يخرجها عن مراد من تكلم بها، والله سبحانه وتعالى يقول: { قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} .

وقد تنوعت النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- على إثبات اليدين لله عز وجل وإثبات الأصابع لهما، وإثبات القبض بهما، وتثنيتهما، وأن إحداهما يمين كما مر – وفي نصوص كثيرة والأخرى شمال – كما في صحيح مسلم – وأنه الصدقة من الكسب الطيب بيمينه فيربيها لصاحبها، وأن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن، كلتا يديه يمين، وغير ذلك مما هو ثابت عن الله ورسوله .

وهذه النصوص، من تأملها عرف أنه يمتنع تأويل اليدين بالنعمة أو القوة أو القدرة أو الخزائن، أو غير ذلك، ويعرف أن التأويل في حكم التحريف – تحريف الكلم عن مواضعه – بل هو تحريف .

هذا، وقد آمن المسلمون بهذه النصوص – على ظاهرها – وقبلوها، ولم يتعرضوا لها بالتأويل متبعين في ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته، وأئمة الهدى، بل وكل من قبل ما جاءت به الرسل وآمن به .

ولقد استفاض ابن حجر في نقل أقوال المثبتين والمتأويل في هذه النصوص، ولم يجنح إلى ترجيح .

قال ابن بطال: في هذه الآية إثبات يدين لله تعالى، وهما صفتان من صفات ذاته وليستا بجارحتين – خلافًا للمشبهة من المثبتة، وللجهمية من المعطلة، ويكفي في الرد على من زعم أنهما بمعنى القدرة، أنهم أجمعوا على أن له قدرة واحدة في قول المثبتة، ولا قدرة له في قول النفاة ؛ لأنهم يقولون إنه قادر لذاته . ويدل على أن اليدين ليستا بمعنى القدرة أن في قوله تعالى لإبليس: { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، إشارة إلى المعنى الذي أوجب السجود، فلو كانت اليد بمعنى القدرة لم يكن بين آدم وإبليس فرق لتشاركهما فيما خلق كل منهما وهي قدرته، ولقال إبليس: وأي فضيلة له عليَّ وأنا خلقتني بقدرتك كما خلقته بقدرتك، فلما قال: { خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} دل على اختصاص آدم بأن الله خلقه بيديه، قال: ولا جائز أن يراد باليدين النعمتان، لاستحالة خلق المخلوق بمخلوق، لأن النعم مخلوقة، ولا يلزم من كونهما صفتي ذات كونهما جارحتين . وقال ابن التين: قوله ك «وبيده الأخرى الميزان يدفع تأويل اليد هنا بالقدرة، وكذا قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما رفعه: «أول ما خلق الله القلم، فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين». الحديث . وقال ابن فورك: قيل اليد بمعنى الذات، وهذا يستقيم في مثل قوله تعالى: { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} بخلاف قوله: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فإنه سيق للرد على إبليس، فلو حمل الذات لما اتجه الرد . اهـ من الفتح.

قلت: كلام ابن بطال متجه إلا قوله: «ليستا بجارحتين» فإن كلمة جارحة وتثنيتهما وجمعها، لم ترد في نص من كتاب الله ولا في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا في كلام السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى لا نفيًا ولا إثباتًا بالنسبة لربنا عز وجل فيسعنا ما وسعهم من السكوت عما سكتوا عنه فلا ينبغي لنا أن نذكر ذلك لا إثباتًا ولا نفيًا .

ثم نقل الحافظ كلام الخطابي تعقيبًا على حديث ابن مسعود في ضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- من كلام اليهودي: «إن الله يمسك السماوات على إصبع»، وهو كلام عجيب جدًا من الخطابي، ولم يعقب ابن حجر على كلام الخطابي إلا في إنكاره ورود الأصابع في حديث مقطوع به، بل أعقب كلام الخطابي بما يؤيده من كلام القرطبي، وهذا غاية العجب، قال الحافظ في الفتح: قال الخطابي: لم يقع ذكر الإصبع في القرآن ولا في حديث مقطوع به، وقد تقرر أن اليد ليست بجارحة حتى يتوهم من ثبوتها ثبوت الأصابع، بل هو توقيف أطلقه الشارع فلا يكيفه ولا يشبه، ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهودي، فإن اليهود مشبهة، وفيما يدعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه ولا تدخل في مذاهب المسلمين، وأما ضحكه -صلى الله عليه وسلم- من قول الحبر فيحتمل الرضا ويحتمل الإنكار، وأما قول الراوي «تصديقًا له»، فظن منه وحسبان، وقد جاء الحديث من عدة طرق ليس فيها هذه الزيادة، وعلى تقدير صحتها فقد يستدل بحمرة الوجه على الخجل، وبصفرته على الوجل، ويكون الأمر بخلاف ذلك ؛ فقد تكون الحمرة لأمر حديث في البدن كثوران الدم، والصفرة لثوران خلط من قرارٍ وغيره، وعلى تقدير أن يكون ذلك محفوظًا فهو محمول على تأويل قوله تعالى: { وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} أي: قدرته على طيها، وسهولة الأمر عليه في جمعها بمنزلة من جمع شيئًا في كفه واستقل بحمله من غير أن يجمع كفله عليه، بل يقله ببعض أصابعه، وقد جرى في أمثالهم: فلان يقل – كذا – بإصبعه ويعمله بخنصره . انتهى ملخصًا .

ثم نقل كلام القرطبي في المفهم: قوله: «إن الله يمسك» إلى آخر الحديث، هذا كله قول اليهودي، وهم يعتقدون التجسيم، وأن الله شخص ذو جوارح كما يعتقده غلاة المشبهة من هذه الأمة . وضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما هو للتعجب من جهل اليهودي، ولهذا قرأ عند ذلك: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي: ما عرفوه حق معرفته ولا عظموه حق تعظيمه، فهذه الرواية هي الصحيحة المحققة، وأما من زاد: «وتصديقًا له» فليست بشيء فإنها من قول الراوي، وهي باطلة ؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يصدق المحال، وهذه الأوصاف في حق الله محال ؛ غذ لو كان ذا يد وأصابع وجوارح كان كواحد منا، فكان يجب له من الافتقار والحدوث والنقص والعجز ما يجب لنا، ولو كان كذلك لاستحال أن يكون إلهًا، إذ لو جازت الإلهية لمن هذه صفته لصحت للدجال وهو محال . إلى أن قال: فإن قيل قد صح حديث: «إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن...» . فالجوب أنه إذا جاءنا مثل هذا في الكلام الصادق تأولناه أو توقفنا فيه إلى أن يتبين وجهه مع القطع باستحالة ظاهره لضرورة صدق من دلت المعجزة على صدقه، ثم لو سلمنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صرح بتصديقه لم يكن ذلك تصديقًا له في المعنى، بل في اللفظ الذي نقله من كتابه عن نبيه، ونقطع بأن ظاهره غير مراد . انتهى .

ثم زكى ابن حجر كلام القرطبي الأخير بقوله: وهذا الذي نحا إليه أخيرًا – يعني تصديق الأخبار وتأويلها على غير ظاهرها – أولى مما ابتدأ به لما فيه من الطعن على ثقات الرواة ورد الأخبار الثابتة، ولو كان الأمر على خلاف ما فهمه الراوي بالظن للزم منه تقرير النبي -صلى الله عليه وسلم- على الباطل وسكوته عن الإنكار، وحاشا لله من ذلك، ثم أشار إلى كلام ابن خزيمة في الإنكار على من ادعى أن الضحك المذكور كان على سبيل الإنكار .

ونسوق كلام إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة – رحمه الله تعالى – في كتابه «التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل» قال في (باب إمساك الله تبارك وتعالى اسمه وجل ثناؤه السماوات والأرض وما عليها على أصابعه) قال قبل أن يسوق الأحاديث بأسانيدها وهي – كلها صحيحة بحمد الله تعالى – جل ربنا عن أن تكون أصابعه كأصابع خلقه، وعن أن يشبه شيء من صفات ذاته صفات خلقه، وقد أجل الله قدر نبيه -صلى الله عليه وسلم- عن أن يوصف الخالق الباري بحضرته بما ليس من صفاته فيسمعه فيضحك عنده ويجعل بدل التكبير والغضب على المتكلم به ضحكًا تبدو نواجذه، بل لا يصف النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الصفة مؤمن به مصدق برسالته .

ثم ساق الإمام ابن خزيمة حديث ابن مسعود بروايته المتعددة وطرقه، وكذا حديث ابن عباس في نفس الباب، وحديث أبي سعيد في القبضتين، وكذا حديث أنس .

وقال رحمه الله: (باب إثبات الأصابع لله عز وجل) من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- قيلا له لا حكاية عن غيره كما زعم بعض أهل الجهل والعناد أن خبر ابن مسعود ليس هو من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- تصديقًا لليهودي . وساق بسنده حديث النواس بن سمعان قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما من قلب إلا وهو بين اصبعين من أصابع الله تعالى إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه». وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك والميزان بيد الرحمن يخفض ويرفع» . هذا حديث الباهلي، وقال الآخرون: «فإذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أذاغه» . ثم روى حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يكثر في دعائه: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» . قالت: فقلت: يا رسول الله، وإن القلوب لتتقلب ؟ قال: «نعم، ما من خلق لله من بني آدم إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه».

ثم قال رحمه الله: فتدبروا يا أولي الألباب ما نقوله في هذا الباب في ذكر اليدين ليجري قولنا في ذكر الوجه والعينين تستيقنوا بهداية الله إياكم، وشرحه جل وعلا صدوركم للإيمان بما قصه الله جل وعلا في محكم تنزيله وبينه على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- من صفات خالقنا عز وجل، وتعلموا بتوفيق الله إياكم أن الحق والصواب والعدل في هذا الجنس مذهبًا مذهب آهل الآثار ومبتغى السنن، وتقفوا على جهل من يسميهم مشبهة، إذ الجهمية المعطلة جاهلون بالتشبيه، نحن نقول: الله جل وعلا له يدان كما أعلمنا الخالق البارئ في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ، ونقول: كلتا يدي ربنا عز وجل يمين على ما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ونقول: إن الله عز وجل يقبض الأرض جميعًا بإحدى يديه، ويطوي السماء بيده الأخرى، وكلتا يديه يمينان لا شمال فيهما، ثم ذكر ابن خزيمة - رحمه الله تعالى – كلامًا طويلاً: أن من أثبت لله تبارك وتعالى يدين عظيمتين يقبض الأرض بإحداهما ويطوي السماء بالأخرى، ويثبت لنبي آدم أيدي ضعيفة مخلوقة لا تستطيع أن تقبض على أقل من شعرة واحدة من جزء من أجزاء كثيرة على أرض واحدة من سبع أرضين، ولو أن جميع من خلقهم الله تعالى من بني آدم إلى وقتنا هذا ومن قضى خلقهم إلى قيام الساعة وتعاونوا كلهم على قبض أرض واحدة من الأرضين السبع بأيديهم كانوا عاجزين غير مستطيعين، وكذا اجتمعوا جميعًا على طي جزء من أجزاء سماء واحدة لم يقدروا على ذلك وكانوا عاجزين عنه غير مستطيعين له، فكيف يكون – يا ذوي الحجا – من وصف يد خالقه بما بينا من القوة والأيد، ووصف يد المخلوقين بالضعف والعجز مشبهًا يد الخالق بيد المخلوقين ؟ أو كيف يكون مشبهًا من يثبت لله أصابع على ما بينه النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- للخالق البارئ، ويقول: «إن الله جل وعلا يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع» إلى آخر الحديث، ويقول: إن جميع بني آدم منذ خلق الله آدم إلى أن ينفخ في الصور لو اجتمعوا على إمساك جزء من أجزاء كثيرة من سماء من سماواته أو أرض من أرضيه السبع بجميع أبدانهم كانوا غير قادرين على ذلك ولا مستطيعين له، بل عاجزين عنه، فكيف يكون مشبهًا يدي ربه بيدي بني آدم، يقول الله تعالى: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} بهما خلق الله آدم عليه السلام وبيده كتب التوراة لموسى عليه السلام ويداه قديمتان لم تزالا باقيتين وأيدي المخلوقين مخلوقة محدثة غير قديمة فانية غير باقية بالية تصير ميتة ثم رميمًا ثم ينشئه الله خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين، فأي تشبيه ينسب لأصحابنا أيها العقلاء إذا أثبتوا للخالق ما أثبته لنفسه وأثبته له نبينا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ، وقول هؤلاء المعطلة يوجب أن كل من يقرأ كتاب الله ويؤمن به إقرارًا باللسان وتصديقًا بالقلب فهو مشبه ؛ لأن الله ما وصف نفسه في محكم تنزيله بزعم هذه الفرقة، فمن أقر بما وصف الله عز وجل به نفسه فهو يشبه الخالق بالمخلوق، فيجب على قول مقالتهم أن يكفر بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- . وأطال في ذلك رحمه الله تعالى، ثم رد قول من يقول من الجهمية المعطلة: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي: نعمتاه، قال: وهذا تبديل لا تأويل، وكذا قول من قال منهم أن معنى قوله تعالى: { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . أي: بقوته، قال: وهذا من التبديل أيضًا وهو جهل بلغة العرب، وأطال في رد مزاعم الجهمية ومن نحا نحوهم، فرحمه الله رحمة واسعة .

وأنا أنقل ما أورده الحافظ في الفتح في معنى استواء الله تعالى عرشه بعد أن ساق أقوال أئمة المعتزلة والجهمية والمعطلة والنفاة وأهل التحريف ؛ تحريف الكلم عن مواضعه . أقول: ما ورد عن أئمة الهدى في هذا الباب (استواء الله على عرشه) يقال في كل وصف وصف الله تعالى به نفسه أو وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الإيمان به والتسليم، وأن يكل العبد كيفيته إلى رب العالمين تبارك وتعالى . قال ابن حجر: وقد نقل أبو إسماعيل الهروي في كتاب الفاروق بسنده إلى داود بن علي بن خلف قال: كنا عند أبي عبد الله بن الأعرابي – يعني محمد بن زياد اللغوي – فقال له رجل: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . فقال: هو على العرش كما أخبر، قال: يا أبا عبد الله إنما معناه استولى، فقال: اسكت، لا يقال استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد، ومن طريق محمد بن أحمد بن النضر الأزدي ؛ سمعت ابن الأعرابي يقول: أرداني أحمد بن أبي داود أن أحد له في لغة العرب: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} بمعنى استولى، فقلت: والله ما أصبت هذا، وقال غيره: لو كان بمعنى استولى لم يختص بالعرش لأنه غالب على جميع المخلوقات، ونقل محيي السنة البغوي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين أن معناه ارتفع، وقال أبو عبيدة والفراء وغيرهما بنحوه . وأخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة من طريق الحسن البصري عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر»، ومن طريق عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سئل: كيف استوى على العرش ؟ فقال: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم»، وأخرج البيهقي بسند جيد عن الأوزاعي قال: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله على عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته، وأخرج الثعلبي من وجه آخر عن الأوزاعي أنه سئل عن قوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} . فقال: هو كما وصف نفسه، وأخرج البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب قال: يا أبا عبد الله: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى ؟ فأطرق مالك فأخذته الرُّحَضَاءُ ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف به نفسه، ولا يقال: كيف وكيف عنه مرفوع، وما أراك إلا صاحب بدعة أخرجوه . ومن طريق يحيى بن يحيى عن مالك نحو المنقول عن أم سلمة رضي الله عنها لكن قال فيه: والإقرار به واجب والسؤال عنه بدعة». وأخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي قال: كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحددون ولا يشبهون ويرون هذه الأحاديث ولا يقولون: كيف، قال أبو داود: وهو قولنا. قال البيهقي: وعلى هذا مضى أكابرنا. وأسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني – تلميذ أبي حنيفة رحمة على أئمتنا جميعًا – قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير، فمن فسر شيئًا منها وقال بقول جهم فقد خرج عما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وفارق الجماعة ؛ لأنه وصف الرب بصفة لا شيء . وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول: لله أسماء وصفات لا يسع أحدًا ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر، وأما قبل قيام الحجة فإن يعذر بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر، فنثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وساق الحافظ في ذلك ما ورد عن الأوزاعي ومالك والثوري والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، وابن المبارك، وما نقله الترمذي في جامعه عنهم جميعًا . ثم نقل قول ابن عبد البر: أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة ولم يكيفوا شيئًا منها، وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فقالوا من أقر بها فهو مشبه، فسماهم من اقر بها معطلة . ونقل أيضًا كلام إمام الحرمين في الرسالة النظامية، قال: اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر ؛ فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجزاء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها – ولو قال كيفيتها كما ورد عن أئمة السلف لكان أحسن – إلى الله تعالى، والذي نرتضيه رأيًا وندين الله به عقيدة اتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة فلو كان تأويل هذه الظواهر حتمًا لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة.

قال الحافظ: تقدم النقل عن أهل العصر الثالث وهم فقهاء الأمصار كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم، وكذا من أخذ عنهم من الأئمة، فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة، وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .

والحمد لله أولاً وآخرًا .

وللحديث بقية إن شاء الله .

عدد المشاهدات 10076