طلاق السنة وطلاق البدعة

2012-09-02

زكريا حسينى

طلاق السنة وطلاق البدعة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، نحمده تعالى ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره، ونصلي ونسلم على خير خلق اللَّه محمد بن عبد اللَّه صلاة وسلامًا دائمين إلى يوم الدين، وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: كان الطلاق على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم).

هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الطلاق باب طلاق الثلاث برقم (1472/15، 16، 17)، ورواه الإمام أحمد في المسند برقم (2875)، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه بالأرقام (11336، 11337، 11338)، وأخرجه النسائي برقم (3435) في كتاب الطلاق باب (طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة)، وأبو داود برقم (2200) في كتاب الطلاق باب (نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث)، وكذا أخرجه الطبراني والدارقطني والبيهقي.

شرح ألفاظ الحديث

قوله: (كانت لهم فيه أناة) أي مهلة، وبقية استمتاع لانتظار المراجعة.

وقوله: (تتابع الناس في الطلاق) جاء في بعض روايات الحديث: (فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق) تتابع بتاءين بعدهما ألف وبعد الألف باء، أي أكثروا من إيقاع الطلاق الثلاث، وقال الإمام النووي في شرح مسلم: (هو بالياء رواية الجمهور، وضبطه بعضهم بالباء الموحدة وهما بمعنى (أي بمعنى واحد)، قال: لكن بالمثناة يستعمل في الشر وبالموحدة يستعمل في الخير والشر، فالمثناة هنا أجود.

اختلاف الفقهاء في العمل بهذا الحديث

القول الأول:

قول جمهور فقهاء الأمة وهو وقوع الطلاق الثلاث في (فم واحد) أي بلفظ: (أنت طالق ثلاثًا)، أو في مجلس واحد، أي بلفظ: (أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق)، وحجتهم في ذلك ما استدلوا به وأورده ابن عبد البر في كتاب الاستذكار على النحو التالي:

1- عن مالك أنه بلغه أن رجلاً قال لعبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما: إني طلقت امرأتي مائة تطليقة، فماذا ترى عليَّ ؟ فقال له ابن عباس: طلقتْ منك لثلاث، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات اللَّه هُزُوًا. (قال محقق الاستذكار: وأخرجه عبد الرزاق في المصنف، والبيهقي في السنن، وانظر المحلَّى).

2- عن مالك أنه بلغه أن رجلاً جاء إلى عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه فقال: إني طلقت امرأتي ثماني تطليقات، فقال ابن مسعود: فماذا قيل لك ؟ قال: قيل لي إنها قد بانت مني، فقال ابن مسعود: صدقوا؛ من طلق كما أمره اللَّه فقد بين اللَّه له، ومن لَبَسَ على نفسِهِ لَبْسًا جعلنا لَبْسَهُ مُلْصقًا به، لا تَلْبسُوا على أنفسكم ونتحمله عنكم، هو كما يقولون. (انظر تخريج الأثر السابق فإن هذا مثله).

3- أورد ابن عبد البر ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه بسنده عن ابن عباس؛ أتاه رجل فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثًا، فقال: إن عمك عصى اللَّه، فأندمه اللَّه ولم يجعل له مخرجًا.

4- وأورد عنه أيضًا بسنده عن أنس قال: كان عمر إذا أُتِيَ برجل يطلق امرأته ثلاثًا في مجلس واحد أوجعه ضربًا، وفرق بينهما.

5- وأورد عنه أيضًا بسنده إلى عمران بن حصين أنه سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثًا في مجلس، قال: عصى ربه وحرمت عليه.

6- وكذا أورد عن ابن عمر قال: من طلق امرأته ثلاثًا فقد عصى ربه، وبانت منه امرأته، ثم قال أبو عمر بن عبد البر: لا أعلم لهؤلاء الصحابة مخالفًا إلا ما خلا ذكره عن ابن عباس وهو شيء لم يروه عنه إلا طاووس، وسائر أصحابه رووه عنه خلافه.

7- ثم أورد ما رواه عبد الرزاق في مصنفه وابن أبي شيبة بسنديهما عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: أنه سئل عن رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء، قال: يكفيه من ذلك رأس الجوزاء (أي ثلاث).

ثم قال أبو عمر: فهذا سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار وغيرهم يروون عن ابن عباس في طلاق الثلاث المجتمعات، أنهن لازمات واقعات، قال: وذلك دليل واضح على وَهْي رواية طاووس عنه، وضعفها حين روى عنه في طلاق الثلاث المجتمعات أنها كانت تعد واحدة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وصدرٍ من خلافة عمر، ثم قال: ما كان لابن عباس ليخالف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخليفتين إلى رأي نفسه، ورواية طاووس وهم وغلط، لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والمغرب والمشرق والشام.

وممن قال بذلك؛ أي أن الطلاق الثلاث بكلمة واحدة تلزم موقعها، ولا تحل له امرأته حتى تنكح زوجًا غيره الأئمة الأربعة، وأصحابهم والثوري وابن أبي ليلى والأوزاعي والليث بن سعد وعثمان البَتّي وإسحاق بن راهويه وغيرهم.

قال ابن عبد البر: وما أعلم أحدًا من أهل السنة قال بغير ذلك إلا الحجاج بن أرطأة، ومحمد بن إسحاق، وكلاهما ليس بفقيه ولا حجة فيما قاله.

القول الثاني: (عدم وقوع الطلاق الثلاث) حكاه ابن حزم، قال ابن القيم في زاد المعاد: حكي للإمام أحمد فأنكره، وقال: هو قول الرافضة، قال ابن عبد البر: ولم يقل به من أهل السنة إلا الحجاج بن أرطأة.

وهو أنها لا تقع شيئًا، بل ترد لأنها بدعة محرمة، والبدعة مردودة لقوله -صلى الله عليه وسلم- : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). ثم قال ابن القيم: وقد اعترف أبو محمد بن حزم بأنها لو كانت بدعة محرمة لوجب أن ترد وتبطل.

القول الثالث:

أنه يقع به طلقة واحدة رجعية، قال ابن القيم: وهذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما، ذكره أبو داود عنه، قال الإمام أحمد: وهذا مذهب ابن إسحاق: يقول: خالف السنة فيرد إلى السنة، وهو قول طاووس وعكرمة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد أيد ابن القيم هذا القول وانتصر له، وذهب إليه الشوكاني.

واحتج القائلون بهذا القول بالنص والقياس، فأما النص فأحاديث منها:

1- حديث ابن عباس الذي معنا والذي رواه عنه طاووس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر ؟ قال: نعم، وقد سبق تخريجه في صدر المقال.

2- ما رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: طلق عبدُ يزيدَ - أبو ركانة وإخوته- أمّ ركانة، ونكح امرأة من مزينة، فجاءت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة - لشعرة أخذتها من رأسها، ففرق بيني وبينه، فأخذت النبي -صلى الله عليه وسلم- حَمِيَّة، فدعا بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: (ألا ترون أن فلانًا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد، وفلانًا منه كذا وكذا ؟ قالوا: نعم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد يزيد: (طلقها) ففعل، ثم قال: (راجع امرأتك أمَّ ركانة وإخوته)، فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول اللَّه، قال: (قد علمت، راجعها) وتلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}.

[هذا لفظ أبي داود]

3- وعند أحمد في المسند: (طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، قال: فسأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : كيف طلقتها؟) فقال: طلقتها ثلاثًا، فقال: (في مجلس واحد؟) قال: نعم، قال: (فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت). قال: فراجعها، فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طهر.

4- ما أخرجه النسائي من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه قال: أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان ثم قال: (أيلعب بكتاب اللَّه وأنا بين أظهركم!!) حتى قام رجل وقال: يا رسول اللَّه، ألا أقتله ؟

قال الشيخ أحمد شاكر: نقل الشوكاني عن ابن كثير أنه قال: (إسناده جيد). وقال ابن حجر في (بلوغ المرام): (رواته موثقون)، وقال في فتح الباري: (ورجاله ثقات، لكن محمود بن لبيد ولد في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يثبت له منه سماع).

وأما القياس: فإنهم قالوا: قد تقدم أن جمع الثلاث محرم وبدعة، والبدعة مردودة؛ لأنها ليست على أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، قالوا: وسائر ما تقدم في بيان التحريم يدل على عدم وقوعها جملة، قالوا: ولو لم يكن معنا إلا قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [التوبة: 6]، وقوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا العَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8]، قالوا: وكذلك كل ما يعتبر له التكرار من حلف أو إقرار أو شهادة أو تسبيح أو تحميد أو تكبير، كما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : (تحلفون خمسين يمينًا، وتستحقون دم صاحبكم).

قال ابن القيم رحمه اللَّه تعالى في إعلام الموقعين (ج3 ص33): وما كان مرة بعد مرة لم يملك المكلف إيقاع مراته كلها جملة واحدة كاللعان، فإنه لو قال: (أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين)، كان مرة واحدة، ولو حلف في القسامة وقال: (أقسم بالله خمسين يمينًا أن هذا قاتله)، كان ذلك يمينًا واحدة، ولو قال المقر بالزنا: (أنا أقر أربع مرات أني زنيت)، كان مرة واحدة؛ فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك إلا إقرارًا واحدًا، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : (من قال في يومه: سبحان اللَّه وبحمده مائة مرة حُطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر). فلو قال: (سبحان اللَّه وبحمده مائة مرة) لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة، وكذلك قوله: (من سبح اللَّه دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمده ثلاثًا وثلاثين، وكبره ثلاثًا وثلاثين). الحديث، لا يكون عاملاً به حتى يقول ذلك مرة بعد مرة، ولا يجمع الكل بلفظ واحد، وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ}، وهكذا قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: (الاستئذان ثلاث مرات، فإن أذن لك وإلا فارجع)، لو قال الرجل ثلاث مرات هكذا كانت مرة واحدة، حتى يستأذن مرة بعد مرة. وهذا كما أنه في الأقوال والألفاظ، فكذلك هو في الأفعال سواء؛ كقوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ}، إنما هو مرة بعد مرة، إلى أن قال: وهذه النصوص المذكورة وقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} كلها من باب واحد ومن مشكاة واحدة، والأحاديث المذكورة تفسر المراد من قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فهذا كتاب اللَّه وهذه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وهذه لغة العرب، وهذا عرف التخاطب، وهذا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والصحابة كلهم معه في عصره وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب؛ فلو عدهم العاد بأسمائهم واحدًا واحدًا لوجد أنهم كانوا يرون الثلاث واحدة، إما بفتوى وإما بإقرار عليها، ولو فرض فيهم من لم يكن يرى ذلك فإنه لم يكن منكرًا للفتوى به، بل كانوا ما بين مفتٍ ومقر بفتيا وساكت غير منكر.

القول الرابع: يقع الثلاث على المدخول بها، وتقع واحدة على غير المدخول بها، وذاهب إلى هذا الحسن البصري وإسحاق بن راهويه، وقد استدل أصحاب هذا القول برواية طاووس عن أبي الصهباء أنه قال لابن عباس رضي اللَّه عنهما: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر ؟ قال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، فلما أن رأى عمر الناس قد تتابعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم. رواه أبو داود.

والجمهور لم يفرق بين المدخول بها وغير المدخول، وهذا الحديث فيه التنصيص على غير المدخول بها، وهو مخالف لعامة الروايات للحديث نفسه، بالإضافة إلى أنه يرويه أيوب عن قوم مجهولين عن طاووس، فلا حجة فيه.

هذا، ولقد كتب العلامة الشيخ أحمد شاكر بحثًا في نظام الطلاق في الإسلام، وأفاض في الكلام حول وقوع الطلاق الثلاث، وقرر أن الخلاف بين التابعين فمن بعدهم في ذلك ونحوه إنما هو في تكرار الطلاق: قال رحمه اللَّه تعالى: أعني أن يطلق الرجل امرأته مرة ثم يطلقها أخرى ثم ثالثة، وأعني أيضًا: أن موضوع الخلاف هو: هل المعتدة يلحقها الطلاق ؟ أي إذا طلقها المرة الأولى فصارت معتدة، ثم طلقها الثانية في العدة؛ فهل تكون طلقة واقعة ويكون قد طلقها طلقتين ؟ فإذا ألحق بهما الثالثة وهي لا تزال في عدتها الأولى؛ هل تكون طلقة واقعة أيضًا ويكون قد أوقع جميع الطلقات التي له عليها وأبانها وبت طلاقها؟ أو أن المعتدة لا يلحقها طلاق ؟ فإذا طلقها الطلقة الأولى كانت مطلقة منه، وهي في عدتها، لا يملك عليها إلا ما أذن به اللَّه: {إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} إن ندم على الفراق راجعها فأمسكها، وإن أصر على الطلاق فليدعها حتى تنقضي عدتها ثم يسرحها بإحسان من غير مُضارة، ثم هو بالنسبة إليها بعد ذلك إن رغب في عودتها حكمه حكم غيره من الرجال: خاطِبٌ من الخُطَّاب، ثم قال رحمه اللَّه: هذا هو موضع الخلاف على التحقيق، وأما كلمة: (أنت طالق ثلاثًا) ونحوها فإنما هي محال، وإنما هي تلاعب بالألفاظ، بل هي تلاعب بالعقول والأفهام !! ولا يعقل أن تكون موضع خلاف بين الأئمة من التابعين فمن بعدهم.

ولقد أطال الشيخ أحمد شاكر رحمه اللَّه في تقرير ما ذهب إليه، فساق الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وقال بعد سردها والحديث عنها: وليس المقصود من الطلاق اللهو واللعب حتى يزعم الرجل لنفسه أنه يملك الطلاق كما يشاء، وكيف شاء ومتى شاء، وأنه إن شاء أبان المرأة بتة، وإن شاء جعلها معتدة يملك عليها الرجعة، كلا، ثم كلا، بل تشريع منظم دقيق من لدن حكيم عليم، شرعه لعباده رحمة بهم، وعلاجًا شافيًا لما يكون في الأسرة بين الزوجين من شقاق وضرار، ورسم قواعده وحد حدوده بميزان العدالة الصحيحة التامة، ونهى عن تجاوزها، وتوعد على ذلك، ولهذا تجد في آيات الطلاق تكرار ذكر حدود اللَّه، والنهي عن تعديها وعن المضارة: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا}، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}.

وبعد هذا العرض لأقوال العلماء في وقوع الطلاق الثلاث؛ يقول الرجل لامرأته: (أنت طالق ثلاثًا)، أو بقوله: (أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق)، نرى أن القول الراجح في هذه المسألة هو قول الجمهور، وهذا لا يمنع الحاكم أو القاضي أن يأخذ بالقول المرجوح وهو القول الثالث الذي ذهب إليه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وقال به بعض العلماء مثل الشوكاني، ونرى أن المحصلة النهائية لكلام العلامة أحمد شاكر توافق ما قال به هؤلاء، ولا ينبغي أن يشنع على من يأخذ بهذا ولا أن يعد مبتدعًا كما يحلو لبعض من كتب في الطلاق إذ أن القول الفقهي وإن كان مرجوحًا فله وجه من الصحة، ولا مانع من الأخذ به في بعض الأحوال والأماكن والأزمان، ولقد وضع ابن القيم هذه المسألة تحت عنوان: تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، من كتابه إعلام الموقعين، كما أن زماننا هذا قد تهاون الناس فيه بالطلاق - وذلك لجهل كثير من المسلمين بأحكام دينهم - فيوقعون أنفسهم في الحرج، وربما شتت أُسرٌ، وتقطعت روابط بسبب التعجل في الطلاق، فإن كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قد رأى تأديب الناس بإيقاع الطلاق الثلاث عليهم وإلزامهم بما ألزموا به أنفسهم، فإنما كان يؤدب أناسًا رأى فيهم أن في إلزامهم ما ألزموا به أنفسهم زجرًا لهم ومانعًا من التعجل في أمر جعل اللَّه لهم فيه فسحة، فلكل زمان أهله وحكامه الذين يوقعون بأهل زمانهم ما يناسبهم.

فنسأل اللَّه تعالى أن يلهم عامة المسلمين رشدهم وأن يوفق علماءهم وأمراءهم لما فيه صالح العباد والبلاد، وأن يرزقنا والمسلمين العلم النافع والعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وصلى اللَّه وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.

عدد المشاهدات 11021