الخطب المهمة لدعاة الأمة : قَبَسَاتٌ مِنْ مِشْكاةِ النُّبوةِ (الطهور شطر الإيمان)

2014-01-01

اللجنة العلمية

قَبَسَاتٌ مِنْ مِشْكاةِ النُّبوةِ

العناصر:

 

بيان أهم معاني الحديث.

بيان فضل الوضوء.

بيان فضل كلمتي سبحان الله والحمد لله.

بيان فضل الصلاة وأنها نورٌ.

الصدقة برهان

الصبر ضياء

القرآن حجة لك أو عليك

أيُّ الغاديين أنت.

 

التفصيل

 عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ -رضى الله عنه-  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: {الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآَنِ، أَوْ تَمْلأُ، مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَالصَّلاَةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا، أَوْ مُوبِقُهَا}. ([1])

بيان أهمية الحديث:

قال النووي: هَذَا حَدِيثٌ عَظِيمٌ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى مُهِمَّاتٍ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ. ([2])

قوله: {الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ}.

الطُّهُورُ بالضمٍّ الْمُرَادُ بِهِ الْفِعْلُ – أي فعل الطهارة – وبالفتح الماء المستعمل في الطهارة، وسميَّ طهورًا لأنه يطهر الأعضاء.

واختلفوا في المراد بكلمة الطهور في هذا الحديث، والصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالطُّهُورِ هَاهُنَا: التَّطْهِيرُ بِالْمَاءِ مِنَ الْإحْدَاثِ، لأن الإمام مُسْلِمًا خرَّج هذا الحديث فِي أَبْوَابِ الْوُضُوءِ، وَكَذَلِكَ خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا. ([3])

ويؤكد ذلك أن لفظ الحديث عند الترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم {الوُضُوءُ شَطْرُ الإِيمَانِ،. }

وفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الطُّهُورَ هَاهُنَا بِتَرْكِ الذُّنُوبِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82]، وَقَوْلِهِ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [الْمُدَّثِّرِ: 4]، وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [الْبَقَرَةِ: 222]. ([4])

شطر الإيمان: نصف الإيمان، لأن خصال الإيمان على قسمين: أحدهما: يطهر القلب ويزكيه، والأخر: يطهر الظاهر فهما نصفان بهذا الاعتبار.

قال الشيخ ابن عثيمين: قوله: الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيْمَانِ أي نصفه، وذلك أن الإيمان - كما يقولون - تخلية وتحلية. والتخلية: بالطهور، والتحلية: بفعل الطاعات، فوجه كون الطهور شطر الإيمان: أن الإيمان إما فعل وإما ترك، والتّركُ تَطَهُّرٌ، والفعل إيجاد.

فقوله: "شَطْرُ الإِيْمَانِ" قيل في معناه: التخلي عن الإشراك لأن الشرك بالله نجاسة كما قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس) (التوبة: الآية28) فلهذا كان الطهور شطر الإيمان، وقيل: إن معناه أن الطهور للصلاة شطر الإيمان، لأن الصلاة إيمان ولا تتم إلا بطهور، لكن المعنى الأول أحسن وأعمّ. ([5])

وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ-صلى الله عليه وسلم-الطهور شطر الْإِيمَانِ فَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَجْرَ فِيهِ يَنْتَهِي تَضْعِيفُهُ إِلَى نِصْفِ أَجْرِ الْإِيمَانِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِيمَانَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْخَطَايَا وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ لِأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ فَصَارَ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى الْإِيمَانِ فِي مَعْنَى الشَّطْرِ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ هُنَا الصَّلَاةُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ ليضيع إيمانكم} وَالطَّهَارَةُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ فَصَارَتْ كَالشَّطْرِ وَلَيْسَ يَلْزَمُ فِي الشَّطْرِ أَنْ يَكُونَ نِصْفًا حَقِيقِيًّا وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ الْأَقْوَالِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يكون مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ وَانْقِيَادٌ بِالظَّاهِرِ وَهُمَا شَطْرَانِ لِلْإِيمَانِ وَالطَّهَارَةُ مُتَضَمِّنَةٌ الصَّلَاةَ فَهِيَ انْقِيَادٌ فِي الظَّاهِرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ([6])

 بيانُ فضلِ الوُضوء بالأدلة:

عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رضى الله عنه- ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ"

   *عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ - أَوِ الْمُؤْمِنُ - فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ -، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ -، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ - حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ"([7])

 *عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضى الله عنه- قال: قال رَسُولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم- "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ"([8])

 *وعن عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال" مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ - أَوْ فَيُسْبِغُ - الْوَضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ ". ([9])

 * وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ " قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: "إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ"([10])

*وقوله: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآَنِ، أَوْ تَمْلأُ، مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.

 تملأ الميزان: لعِظَمُ أَجْرِهَا وَأَنَّهُ يَمْلَأُ الْمِيزَانَ وَقَدْ تَظَاهَرَتْ نُصُوصُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى وَزْنِ الْأَعْمَالِ وَثِقَلِ الْمَوَازِينِ وَخِفَّتِهَا. ([11])

 وقد اختلف في معنى [ تملأ الميزان. . ]: فقيل: أنه من باب ضرب المثل، وأن المعنى لَوْ قُدِّرَ ثَوَابُهُمَا جِسْمًا لَمَلَأَ الميزان.

وَقِيلَ: بَلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُمَثِّلُ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَأَقْوَالَهُمْ صُوَرًا تُرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتُوزَنُ. ([12])

ومعنى تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض: لو قدر ثوابهما جسمًا لملأ ما بين السماء والأرض.

*وَسَبَبُ عِظَمِ فَضْلِهِمَا مَا اشْتَمَلَتَا عَلَيْهِ مِنَ التَّنْزِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالتَّفْوِيضِ وَالِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ. ([13])

بيان فضل قول: سبحان الله والحمد لله بالأدلة:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ" ([14])

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَأَنْ أَقُولَ سُبْحَانَ اللهَِ، والْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ"([15])

عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ -رضى الله عنه- ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: " أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ. لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ "([16])

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضى الله عنه-  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ وَأَنَّهَا قِيعَانٌ وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ ". ([17])

 وقوله{وَالصَّلاَةُ نُورٌ}

معناه: أن الصلاةَ إذا فُعلتْ بشروطها  المصححة والمكملة نوَّرت القلب؛ بحيث تُشرق فيه أنوارُ المعارف والمكاشفات. ([18])

 فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا تَمْنَعُ مِنَ الْمَعَاصِي وَتَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَتَهْدِي إِلَى الصَّوَابِ كَمَا أَنَّ النُّورَ يُسْتَضَاءُ بِهِ. ([19])

فَهِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا نُورٌ فِي قُلُوبِهِمْ وَبَصَائِرِهِمْ، تُشْرِقُ بِهَا قُلُوبُهُمْ، وَتَسْتَنِيرُ بَصَائِرُهُمْ وَلِهَذَا كَانَتْ قُرَّةَ عَيْنِ الْمُتَّقِينَ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: " "جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ" "([20])

بيان فضل الصلاة وأنها نورٌ.

فهي نور في الدنيا كما قال تعالى {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}.

قال ابن عباس ومجاهد: السيماء فِي الدُّنْيَا وَهُوَ السَّمْتُ الْحَسَنُ. ([21])

وَهِيَ نُورٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قُبُورِهِمْ، وَلَاسِيَّمَا صَلَاةُ اللَّيْلِ كَمَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: صَلُّوا رَكْعَتَيْنِ فِي ظُلَمِ اللَّيْلِ لِظُلْمَةِ الْقُبُورِ.

وَعَنْ بُرَيْدَةَ  -رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". ([22])

وأيضًا: تنوِّر وجه المصلي يوم القيامة، فيكون ذا غُرّةٍ وتحجيل، ([23]) كما في حديث عبد الله بن بسر -رضى الله عنه- قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " أُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ غُرٌّ مِنَ السُّجُودِ، مُحَجَّلُونَ مِنَ الوُضُوءِ ". ([24])

  وقوله{وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ}

وَالْبُرْهَانُ: هُوَ الشُّعَاعُ الَّذِي يَلِي وَجْهَ الشَّمْسِ. . . وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ بُرْهَانًا، لِوُضُوحِ دِلَالَاتِهَا عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ عَلَى صِحَّةِ الْإِيمَانِ، وَطِيبُ النَّفْسِ بِهَا، عَلَامَةٌ عَلَى وُجُودِ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَطَعْمِهِ،. . . . وعبر عن الصدقة بأنها برهان لأَنَّ الْمَالَ تُحِبُّهُ النُّفُوسُ وَتَبْخَلُ بِهِ، فَإِذَا سَمَحَتْ بِإِخْرَاجِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ إِيمَانِهَا بِاللَّهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ. ([25])

عن عبد الله بن معاوية الغاضري  -رضى الله عنه-  قال قال رسول الله  -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلَاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ طَعِمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللهَ وَحْدَهُ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ. . . ". ([26])

وَلِهَذَا مَنَعَتِ الْعَرَبُ الزَّكَاةَ بَعْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، لضعف تمكن الإيمان من قلوبهم، فَقَاتَلَهُمُ الصِّدِّيقُ -رضى الله عنه-  عَلَى مَنْعِهَا.

 وللصدقة فضائل كثيرة منها:

   أنها سبب عظيم لتطهير للنفس.

قال تعالى{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ  } (التوبة: 103).

أنها سبب لمضاعفة الحسنات.

قال تعالى{ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 261] وقال تعالى{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة: 245] وقال تعالى{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } [الحديد: 11]

أنها سبب لمغفرة الذنوب.

قال -صلى الله عليه وسلم-:{والصدقةُ تطفئُ الخطيئةَ كما يطفئُ الماءُ النار}.([27])

وقوله{وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ}

وَالضِّيَاءُ: هُوَ النُّورُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ نَوْعُ حَرَارَةٍ وَإِحْرَاقٍ كَضِيَاءِ الشَّمْسِ بِخِلَافِ الْقَمَرِ، فَإِنَّهُ نُورٌ مَحْضٌ، فِيهِ إِشْرَاقٌ بِغَيْرِ إِحْرَاقٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا}[يونس: 5]. . . وَلَمَّا كَانَ الصَّبْرُ شَاقًّا عَلَى النُّفُوسِ، يَحْتَاجُ إِلَى مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَحَبْسِهَا وَكَفِّهَا عَمَّا تَهْوَاهُ، كَانَ ضِيَاءً فَإِنَّ مَعْنَى الصَّبْرِ فِي اللُّغَةِ الْحَبْسُ. ([28])

بيان بعض ما ورد في منزلة الصبر من الأدلة:

أمرنا الله به في كتابه في أكثر من موضع

قال تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [آل عمران: 200]

سبب لمحبة الله

قال تعالى{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } [آل عمران: 146]

الصبر أعظم النِّعَم

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضى الله عنه- : أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قال: " وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ" ([29])

وعد الله عز وجل الصابرين بالجنة والأجر العظيم

وقال تعالى{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } [البقرة: 155] وقال تعالى{وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ } [القصص: 80] وقال تعالى{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10]

ونقل ابن القيم رحمه الله- عن الْإِمَام أَحْمَد-رحمه الله- : أن الصَّبْر ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ فِي نَحْوِ تِسْعِينَ مَوْضِعًا. وما ذلك إلا لمكانته وعظم قدره عند الله جل وعلا.

قال ابن القيم: وَهُوَ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. وَهُوَ نِصْفُ الْإِيمَانِ. فَإِنَّ الْإِيمَانَ نِصْفَانِ: نِصْفُ صَبْرٍ، وَنِصْفُ شُكْرٍ. ([30])

وبيَّنَ ابنُ القيم رحمه الله أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فقال: فالمعونة من الله تنزل على الْعباد على قدرِ هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عَلَيْهِم على حسب ذَلِك. ، فَالله سُبْحَانَهُ أحكم الْحَاكِمين وَأعلم الْعَالمين يضع التَّوْفِيق فِي موَاضعه اللائقة بِهِ، والخذلان فِي موَاضعه اللائقة بِهِ وهُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم. ، وَمَا أُتِي من أُتِي إِلَّا من قِبَل إِضَاعَة الشُّكْر وإهمال الافتقار وَالدُّعَاء، وَلَا ظفر من ظفر بِمَشِيئَة الله وعونه إِلَّا بقيامه بالشكر وَصدق الافتقار وَالدُّعَاء، وملاك ذَلِك الصَّبْر فَإِنَّهُ من الْإِيمَان بِمَنْزِلَة الرَّأْس من الْجَسَد فَإِذا قطع الرَّأْس فَلَا بَقَاء للجسد. ([31])

والصبر ثلاثة أنواع:

قال ابن رجب: وَالصَّبْرُ الْمَحْمُودُ أَنْوَاعٌ: مِنْهُ صَبْرٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْهُ صَبْرٌ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْهُ صَبْرٌ عَلَى أَقْدَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّبْرُ عَلَى الطَّاعَاتِ وَعَنِ الْمُحَرَّمَاتِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَقْدَارِ الْمُؤْلِمَةِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ السَّلَفُ. ([32])

وقوله{وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أَوْ عَلَيْكَ}

والمعنى أن القرآن إما أن يكون حجةً للإنسان أو حجةً عليه، فيكون حجة للإنسان: إذا اتبع أوامره وانتهى عند نواهيه وعمل به وأقام حدوده، ويكون حجة على الإنسان: إذا ترك أمره ووقع في نواهيه وأعرض عنه.

قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}[الإسراء: 82]

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا جَالَسَ أَحَدٌ الْقُرْآنَ، فَقَامَ عَنْهُ سَالِمًا؛ بَلْ إِمَّا أَنْ يَرْبَحَ أَوْ أَنْ يَخْسَرَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. ([33])

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رضى الله عنه- : الْقُرْآنُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ، فَمَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ، قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمِنْ جَعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، قَادَهُ إِلَى النَّارِ.

وَعَنْهُ قَالَ: يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَشْفَعُ لِصَاحِبِهِ، فَيَكُونُ قَائِدًا إِلَى الْجَنَّةِ، أَوْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ سَائِقًا إِلَى النَّارِ.

وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ -رضى الله عنه- : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ كَائِنٌ لَكُمْ أَجْرًا، وَكَائِنٌ عَلَيْكُمْ وِزْرًا، فَاتَّبَعُوا الْقُرْآنَ، وَلَا يَتْبَعُكُمُ الْقُرْآنُ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ هَبَطَ بِهِ عَلَى رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمَنِ اتَّبَعَهُ الْقُرْآنُ زَجَّ فِي قَفَاهُ، فَقَذَفَهُ فِي النَّارِ. ([34])

التحذير من هجر القرآن الكريم

لقد حذر الله سبحانه وتعالى من هجر القرآن، فقال عز وجل: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]

 قال ابن كثير: ترك تصديقه مِنْ هُجْرَانِهِ، وَتَرْكُ تَدَبُّرِهِ وَتَفْهُّمِهِ مِنْ هُجْرَانِهِ، وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ زَوَاجِرِهِ مِنْ هُجْرَانِهِ، وَالْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مَنْ شِعْرٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ غِنَاءٍ أَوْ لَهْوٍ أَوْ كَلَامٍ أَوْ طَرِيقَةٍ مَأْخُوذَةٍ مِنْ غَيْرِهِ، مِنْ هُجْرَانِهِ. ([35])

 فقد هجر الكثير كلام الله سبحانه وتعالى، حتى إن المصحف لتتراكم عليه أكوام الأتربة، أو ربما ينفضها لكن لمجرد الزينة في البيت أو السيارة، وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أنواع الهجر فقال:

هجر الْقُرْآن أَنْوَاع:

 أَحدهَا: هجر سَمَاعه وَالْإِيمَان بِهِ والإصغاء إِلَيْهِ.

وَالثَّانِي: هجر الْعَمَل بِهِ وَالْوُقُوف عِنْد حَلَاله وَحَرَامه وَإِن قَرَأَهُ وآمن بِهِ.

وَالثَّالِث: هجر تحكيمه والتحاكم إِلَيْهِ فِي أصُول الدّين وفروعه واعتقاد أَنه لَا يُفِيد الْيَقِين وَأَن أدلته لفظية لَا تحصّل الْعلم.

وَالرَّابِع: هجر تدبّره وتفهّمه وَمَعْرِفَة مَا أَرَادَ الْمُتَكَلّم بِهِ مِنْهُ.

 وَالْخَامِس: هجر الِاسْتِشْفَاء والتداوي بِهِ فِي جَمِيع أمراض الْقلب وأدوائها فيطلب شِفَاء دائه من غَيره ويهجر التَّدَاوِي بِهِ وكل هَذَا دَاخل فِي قَوْله {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} وَإِن كَانَ بعض الهجر أَهْون من بعض. ([36])

وقوله{كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا، أَوْ مُوبِقُهَا}.

 فمن بَاعَ نَفسه لربه عز وَجل أعْتقهَا فنجت، وَمن بَاعهَا للهوى وَسلم قياده إِلَيْهِ أوبقها: أَي أهلكها. ([37])

فدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ فَهُوَ سَاعٍ فِي هَلَاكِ نَفْسِهِ، أَوْ فِي فَكَاكِهَا، فَمَنْ سَعَى فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَقَدْ بَاعَ نَفْسَهُ لِلَّهِ، وَأَعْتَقَهَا مِنْ عَذَابِهِ، وَمَنْ سَعَى فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَقَدْ بَاعَ نَفْسَهُ بِالْهَوَانِ، وَأَوْبَقَهَا بِالْآثَامِ الْمُوجِبَةِ لِغَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ. . } إِلَى قَوْلِهِ: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التَّوْبَةِ: 111]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207]

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15]

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا" وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " "يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، يَا عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، يَا فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، اشْتَرِيَا أَنْفُسَكُمَا مِنَ اللَّهِ، لَا أَمْلِكُ لَكُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا" ". وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ دَعَا قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا، فَعَمَّ وَخَصَّ، فَقَالَ: "يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا". ([38])

وَقَدِ اشْتَرَى جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ أَنْفُسَهُمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَمْوَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ كَحَبِيبٍ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَصَدَّقَ بِوَزْنِهِ فِضَّةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَوْ أَرْبَعًا، كَخَالِدٍ الطَّحَاوِيِّ.

 وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَجْتَهِدُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَيَقُولُ: إِنَّمَا أَنَا أَسِيرٌ أَسْعَى فِي فَكَاكِ رَقَبَتِي، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ بِقَدْرِ دِيَتِهِ، كَأَنَّهُ قَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ يَفْتَكُّهَا بِدِيَتِهَا.

قَالَ الْحَسَنُ: الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا كَالْأَسِيرِ، يَسْعَى فِي فَكَاكِ رَقَبَتِهِ، لَا يَأْمَنُ شَيْئًا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.

وَقَالَ: ابْنُ آدَمَ، إِنَّكَ تَغْدُو وَتَرُوحُ فِي طَلَبِ الْأَرْبَاحِ، فَلْيَكُنْ هَمُّكَ نَفْسَكَ، فَإِنَّكَ لَنْ تَرْبَحَ مِثْلَهَا أَبَدًا.

قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: قَالَ لِي رَجُلٌ مَرَّةً وَأَنَا شَابٌّ: خَلِّصْ رَقَبَتَكَ مَا اسْتَطَعْتَ فِي الدُّنْيَا مِنْ رِقِّ

الْآخِرَةِ، فَإِنَّ أَسِيرَ الْآخِرَةِ غَيْرُ مَفْكُوكٍ أَبَدًا، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا نَسِيتُهَا بَعْدُ.

وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَبْكِي، وَيَقُولُ: لَيْسَ لِي نَفْسَانِ، إِنَّمَا لِي نَفْسٌ وَاحِدَةٌ، إِذَا ذَهَبَتْ لَمْ أَجِدْ أُخْرَى.

وَقَالَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ الْجَنَّةَ ثَمَنًا لِأَنْفُسِكُمْ، فَلَا تَبِيعُوهَا بِغَيْرِهَا.

 وَقَالَ: أَيْضًا مَنْ كَرُمَتْ نَفْسُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لِلدُّنْيَا عِنْدَهُ قَدْرٌ.

وَقِيلَ لَهُ: مَنْ أَعْظَمُ النَّاسِ قَدْرًا؟ قَالَ: مَنْ لَمْ يَرَ الدُّنْيَا كُلَّهَا لِنَفْسِهِ خَطَرًا.

وَأَنْشَدَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ:

أُثَامِنُ بِالنَّفْسِ النَّفِيسَةِ رَبَّهَا. . . وَلَيْسَ لَهَا فِي الْخَلْقِ كُلِّهِمْ ثَمَنُ

بِهَا تُمْلَكُ الْأُخْرَى فَإِنْ أَنَا بِعْتُهَا. . . بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، فَذَاكَ هُوَ الْغَبَنُ

لَئِنْ ذَهَبَتْ نَفْسِي بِدُنْيَا أُصِيبُهَا. . . لَقَدْ ذَهَبَتْ نَفْسِي وَقَدْ ذَهَبَ الثَّمَنُ. ([39])

فالحرية الحقيقية -أخي المسلم- هي القيام بطاعة الله عز وجل واتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وليس إطلاق العنان للنفس تصول وتجول في مراتع الشهوات، فعند تأمل أحوال أولئك الذين أطلقوا العنان لشهواتهم وغرائزهم دون ضوابط، والنظر في عواقب مآلهم؛ فإنهم انطلقوا يطلبون السعادة في غير اتجاهها؛ فما وجدوا إلا التعاسة والألم النفسي والتعب الجسدي.

كما قال ابن القيم في النونية:

هَرَبُوا مِن الرِّقِ الذي خُلِقُوا لَهُ. . . فَبُلُوا بِرِقِّ النَّفْسِ والشَّيْطَانِ

لا تَرْضَ ما اخْتَارُوا هُمُ لِنُفُوسِهِم. . . فَقدِ ارْتَضُوا بالذِلِ والحِرمانِ

لَوْ سَاوَتِ الدنيا جَنَاحَ بَعُوضَةٍ. . . لم يَسْقِ منها الربُّ ذَا الكُفْرَانِ

لَكِنَّهَا واللهِ أحْقَرُ عِنْدَهُ. . . مِن ذَا الجَناحِ القَاصِرِ الطَّيَرَانِ

 



([1]) رواه مسلم (223)

([2]) شرح النووي على مسلم (3/ 100 )

([3]) جامع العلوم والحكم(2/ 7) بتصرف

([4]) جامع العلوم والحكم (2/ 7 )

([5]) شرح الأربعين النووية للعثيمين (ص: 220)

([6]) شرح النووي على مسلم (3/ 100 )

([7]) رواه مسلم (244).

([8]) رواه مسلم (234).

([9]) رواه مسلم (234).

([10]) رواه مسلم (251).

([11]) شرح النووي على مسلم (3/ 101 ).

([12]) جامع العلوم والحكم (2/ 16 ).

([13]) شرح النووي على مسلم (3/ 101 ).

([14]) البخاري(6406)، ومسلم (2694).

([15]) رواه مسلم (2695).

([16]) رواه مسلم (2137).

([17]) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. (2462)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 916 ).

([18]) المفهم للقرطبي (3/ 102).

([19]) شرح النووي على مسلم (3/ 101 ).

([20]) جامع العلوم والحكم (2/ 21 )

([21]) تفسير القرطبي (16/ 293)

([22]) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 224)

([23]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (3/ 102)

([24]) رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني في  صحيح الجامع (1/ 296)

([25]) جامع العلوم والحكم  (2/ 24 ) بتصرف

([26]) رواه أبو داود وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 37)

([27]) رواه الترمذي(614) من حديث معاذ بن جبل  -رضى الله عنه- ، و صححه الألباني في إرواء الغليل (2/ 138 )

([28]) جامع العلوم والحكم (2/  25-26 ) باختصار

([29]) البخاري (1469) ومسلم (1053)

([30]) مدارج السالكين (2/ 151 )

([31]) الفوائد لابن القيم (ص: 97 )

([32]) جامع العلوم والحكم  (2/ 25 )

([33]) جامع العلوم والحكم (2/ 26 )

([34]) جامع العلوم والحكم (2/ 26 -27)

([35]) تفسير ابن كثير (6/ 99)

([36]) الفوائد لابن القيم (ص: 82)

([37]) كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي (4/ 155)

([38])  البخاري (2753)، ومسلم (204).

([39]) جامع العلوم والحكم (2/ 28 -31).

عدد المشاهدات 20941