التواضع (الخطب المهمة لدعاة الأمة عدد شهر ذو القعدة 1436هـ)

2015-08-23

اللجنة العلمية

العنوان :التواضع

الخطبة إعداد اللجنة العلمية

عدد ذو القعدة 1436هـ من الخطب المهمة لدعاة الأمة


التــــــواضع

عناصر الخطبة

تعريف التواضع وذكره في القرآن والسنة

أقسام التواضع وأسبابه

نماذج من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم

الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين في مدح التواضع

بعض فوائد التواضع

 

التفصيل

اعلم أن للتواضع فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، فهو نعمةٌ عظيمة، وَمِنَّةٌ جسيمة، ومنحة عظمى، شأنه عظيم، ونفعه عميم، له فضائل لا تحصى، وثمرات لا تفنى، وله أهمية كبرى، وأسرار بديعة، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، وهو من أشرف العبادات و أجلّ الطاعات.

والتواضع من أجلّ الأعمال التي يحبها الله جل جلاله، ومن تواضع لله رفعه، والتواضع لا يكون إلا بصلاح القلب؛ لأن الله سبحانه وتعالى من حكمته إذا اطلع على سريرة العبد ووجد فيها الخير، أن يظهر ذلك لعباده ويكشفه، وقلَّ أن يُغيَّب عبد سريرة خير إلا وأظهرها الله في وجهه ولسانه وفلتات جوارحه وأركانه.

ومن تواضع لله طاب معدنه، وطاب قلبه، وزكت نفسه؛ لأنه يريد الله والدار الآخرة، ولا يتواضع إلا من عرف الله وعرف مقدار نعمته عليه، ولا يكون التواضع بالتشهي ولا بالتمني ولا بالتكلف ولا بالرياء، ولا بمحبة الثناء؛ ولكنه شعور صادق نابع من نفس مؤمنة صادقة، تريد ما عند الله سبحانه وتعالى. (1)

تعريف التواضع وذكره في القرآن والسنة

 ولذلك عرف العلماء التواضع فقالوا إظهار التّنزّل عن المرتبة لمن يراد تعظيمه. (2)

وقَالَ رُوَيْم رحمه اللهالتَّوَاضُع تذلل الْقُلُوب لعلام الغيوب.

يقول الْحَسَنُ رحمه الله((هَلْ تَدْرُونَ مَا التَّوَاضُعُ؟ التَّوَاضُعُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِكَ فَلَا تَلْقَ مُسْلِمًا إِلَّا رَأَيْتَ أن لَهُ عَلَيْكَ فَضْلًا)). (3)

إن من نبذ خلق التواضع وتعالى وتكَبَّر، إنما هو في حقيقة الأمر معتدٍ على مقام الألوهية، طالباً لنفسه العظمة والكبرياء، متناسياً حق الله تعالى عليه، متجرِّئٌ على مولاه وخالقه ورازقه، منازع إياه صفة من صفات كماله وجلاله وجماله، إذ الكبرياء والعظمة له وحده. (4)، (5)، (6)

والذي يتأمل آيات القرآن الكريم يرى أنها جاءت بمدح التواضع والمتصفين به فقال تعالى{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا }[الفرقان: 63].

يقول الْحَسَنِ البصري رحمه الله" الْمُؤْمِنُونَ قَوْمٌ ذُلُلٌ، ذَلَّتْ وَاللَّهِ الْأَسْمَاعُ وَالْأَبْصَارُ وَالْجَوَارِحُ، حَتَّى يَحْسَبَهُمُ الْجَاهِلُ مَرْضَى، وَاللَّهِ مَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ، وَإِنَّهُمْ لَأَصِحَّاءُ الْقُلُوبِ، وَلَكِنْ دَخَلَهُمْ مِنَ الْخَوْفِ مَا لَمْ يَدْخُلْ غَيْرَهُمْ، وَمَنَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا عِلْمُهُمْ بِالْآخِرَةِ، وَقَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ وَاللَّهِ مَا أَحْزَنَهُمْ حُزْنُ النَّاسِ، وَلَا تَعَاظَمَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا طَلَبُوا بِهِ الْجَنَّةَ، أَبْكَاهُمُ الْخَوْفُ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَتَعَزَّ بِعَزَاءِ اللَّهِ، تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ عَلَى الدُّنْيَا حَسَرَاتٍ، وَمَنْ لَمْ يَرَ لِلَّهِ عَلَيْهِ نِعْمَةً إِلَّا فِي مَطْعَمٍ، أَوْ مَشْرَبٍ فَقَدْ قَلَّ عِلْمُهُ وَحَضَرَ عَذَابُهُ".(7)

ويقول الْحَسَنُ رحمه اللهفي معنى الآية أيضاً: عُلَمَاءُ حُلَمَاءُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: أَصْحَابُ وَقَارٍ وَعِفَّةٍ لَا يَسْفَهُونَ. وَإِنْ سُفِهَ عَلَيْهِمْ حَلُمُوا. (8)، (9)

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ)). (10)

وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54].

لَمَّا كَانَ الذُّلُّ مِنْهُمْ ذُلَّ رَحْمَةٍ وَعَطْفٍ وَشَفَقَةٍ وَإِخْبَاتٍ عَدَّاهُ بِأَدَاةِ عَلَى تَضْمِينًا لِمَعَانِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ. فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذُلَّ الْهَوَانِ الَّذِي صَاحِبُهُ ذَلِيلٌ. وَإِنَّمَا هُوَ ذُلُّ اللِّينِ وَالِانْقِيَادِ الَّذِي صَاحِبُهُ ذَلُولٌ، فَالْمُؤْمِنُ ذَلُولٌ.

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ((مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ، إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ)). (11)

وَقَوْلُهُ: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] هُوَ مِنْ عِزَّةِ الْقُوَّةِ وَالْمَنَعَةِ وَالْغَلَبَةِ. قَالَ عَطَاءٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْوَالِدِ لِوَلَدِهِ. وَعَلَى الْكَافِرِينَ كَالسَّبُعِ عَلَى فَرِيسَتِهِ. كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] وَهَذَا عَكْسُ حَالِ مَنْ قِيلَ فِيهِمْ:

كِبْرًا عَلَيْنَا، وَجُبْنًا عَنْ عَدُوِّكُمُ لَبِئْسَتِ الْخِلَّتَانِ: الْكِبْرُ، وَالْجُبْنُ. (12)

وقال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر: 88)، وفي آية أخرى: (لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 215). أي تواضع؛ وذلك أن المتعالي والمترفع يرى نفسه أنه كالطير يسبح في جو السماء، فأمر أن يخفض جناحه وينزله للمؤمنين الذي أتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم. (13)

فالتواضع لا يزيد العبد إلا رفعة في الدنيا لأنه بالتواضع يعظم في القلوب وترتفع منزلته في النفوس فتواضعوا يرفعكم الله تعالى في الدنيا بوضع القبول في القلوب وإعظام المنزلة في الصدور وفي الآخرة بتكثير الأجر وإعظام القدر.

أقسام التواضع

1- التَّوَاضُعُ لِلدِّينِ. وَهُوَ أَنْ لَا يُعَارِضَ بِمَعْقُولٍ مَنْقُولًا. وَلَا يَتَّهِمَ لِلدِّينِ دَلِيلًا. وَلَا يَرَى إِلَى الْخِلَافِ سَبِيلًا.

والتَّوَاضُعُ لِلدِّينِ، هُوَ الِانْقِيَادُ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وَالِاسْتِسْلَامُ لَهُ، وَالْإِذْعَانُ.

2- أَنْ تَرْضَى بِمَا رَضِيَ الْحَقُّ بِهِ لِنَفْسِهِ عَبْدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَخًا. وَأَنْ لَا تَرُدَّ عَلَى عَدُوِّكَ حَقًّا. وَأَنْ تَقْبَلَ مِنَ الْمُعْتَذِرِ مَعَاذِيرَهُ.

قَوْلُهُ: وَأَنْ لَا تَرُدَّ عَلَى عَدُوِّكَ حَقًّا، أَيْ لَا تَصِحُّ لَكَ دَرَجَةُ التَّوَاضُعِ حَتَّى تَقْبَلَ الْحَقَّ مِمَّنْ تُحِبُّ وَمِمَّنْ تُبْغِضُ فَتَقْبَلُهُ مِنْ عَدُوِّكَ كَمَا تَقْبَلُهُ مِنْ وَلِيِّكَ. وَإِذَا لَمْ تَرُدَّ عَلَيْهِ حَقَّهُ، فَكَيْفَ تَمْنَعُهُ حَقًّا لَهُ قِبَلَكَ؟ بَلْ حَقِيقَةُ التَّوَاضُعِ أَنَّهُ إِذَا جَاءَكَ قَبِلْتَهُ مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ لَهُ عَلَيْكَ حَقٌّ أَدَّيْتَهُ إِلَيْهِ. فَلَا تَمْنَعُكَ عَدَاوَتُهُ مِنْ قَبُولِ حَقِّهِ، وَلَا مِنْ إِيتَائِهِ إِيَّاهُ.

وَأَمَّا قَبُولُكَ مِنَ الْمُعْتَذِرِ مَعَاذِيرَهُ، فَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ. ثُمَّ جَاءَ يَعْتَذِرُ مِنْ إِسَاءَتِهِ، فَإِنَّ التَّوَاضُعَ يُوجِبُ عَلَيْكَ قَبُولَ مَعْذِرَتِهِ، حَقًّا كَانَتْ أَوْ بَاطِلًا. وَتَكِلُ سَرِيرَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْهُ فِي الْغَزْوِ. فَلَمَّا قَدِمَ جَاءُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ. فَقَبِلَ أَعْذَارَهُمْ. وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَعَلَامَةُ الْكَرَمِ وَالتَّوَاضُعِ: أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ الْخَلَلَ فِي عُذْرِهِ لَا تُوقِفُهُ عَلَيْهِ وَلَا تُحَاجُّهُ. وَقُلْ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ. وَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ، وَالْمَقْدُورُ لَا مَدْفَعَ لَهُ. وَنَحْوُ ذَلِكَ. (14)

وقيل التواضع تواضعان أحدهما محمود والآخر مذموم والتواضع المحمود ترك التطاول على عباد الله والإزراء بهم والتواضع المذموم هو تواضع المرء لذي الدنيا رغبة في دنياه. (15)

أسباب التواضع

وللتواضع أسباب لا يكون المسلم متخلقّاً به إلا بتحصيلها، وقد بيَّنها الإمام ابن القيم رحمه اللهبقوله:

التواضع يتولد من العلم بالله سبحانه، ومعرفة أسمائه وصفاته، ونعوت جلاله، وتعظيمه، ومحبته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها، وعيوب عملها وآفاتها، فيتولد من بين ذلك كله خلق هو " التواضع "، وهو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة بعباده، فلا يرى له على أحدٍ فضلاً، ولا يرى له عند أحدٍ حقّاً، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قِبَلَه، وهذا خلُق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبُّه، ويكرمه، ويقربه. (16)

يقول أَبُوحاتم بن حبان رحمه الله"مَا استُجلبت البغضة بمثل التكبر ولا اكتسبت المحبة بمثل التواضع ومن استطال على الإخوان فلا يثقن منهم بالصفاء ولا يجب لصاحب الكبر أن يطمع في حسن الثناء ولا تكاد ترى تائها إلا وضيعا، فالعاقل إذا رأى من هو أكبر سنا منه تواضع له وقال سبقني إلى الإسلام وإذا رأى من هو أصغر سنا تواضع له وقال سبقته بالذنوب وإذا رأى من هو مثله عده أخا فكيف يحسن تكبر المرء على أخيه ولا يجب استحقار أحد لأن العود المنبوذ ربما انتفع به فحك الرجل به أذنه". (17)

ثم اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخُلُقَ كَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ لَهُ طَرَفَانِ وَوَسَطٌ، فَطَرَفُهُ الَّذِي يَمِيلُ إِلَى الزِّيَادَةِ يُسَمَّى تَكَبُّرًا، وَطَرَفُهُ يَمِيلُ إِلَى النُّقْصَانِ يُسَمَّى تَخَاسُسًا وَمَذَلَّةً، وَالْوَسَطُ يُسَمَّى تَوَاضُعًا، وَالْمَحْمُودُ أَنْ يَتَوَاضَعَ فِي غَيْرِ مَذَلَّةٍ وَتَخَاسُسٍ، فَإِنَّ: كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ. (18)

 

 نماذج من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ومع الآخرين

والتواضع خلق محمود؛ ولذلك تخلق به رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، فكَانَ صلى الله عليه وسلم هَيِّنَ الْمُؤْنَةِ، لَيِّنَ الْخُلُقِ، كَرِيمَ الطَّبْعِ، جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ، طَلْقَ الْوَجْهِ بَسَّامًا، مُتَوَاضِعًا مِنْ غَيْرِ ذِلَّةٍ، جَوَادًا مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ، رَقِيقَ الْقَلْبِ رَحِيمًا بِكُلِّ مُسْلِمٍ خَافِضَ الْجَنَاحِ لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيِّنَ الْجَانِبِ لَهُمْ. (19)

فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رحمه الله، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يُحَدِّثُ، أَنَّ اللهَ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَرْسَلَ إِلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَعَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ الْمَلَكُ: إِنَّ اللهَ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مَلَكًا، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ، فَأَشَارَ جِبْرِيلُ بِيَدِهِ أَنْ تَوَاضَعَ، فَقَالِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَلْ أَكُونُ عَبْدًا نَبِيًّا"، قَالَ: فَمَا أَكَلَ بَعْدَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ طَعَامًا مُتَّكِئًا ". (20)

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الغَنَمَ"، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: "نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ". (21)

قَالَ الْعُلَمَاءُ الْحِكْمَةُ فِي إِلْهَامِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ رَعْيِ الْغَنَمِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمُ التَّمَرُّنُ بِرَعْيِهَا عَلَى مَا يُكَلَّفُونَهُ مِنَ الْقِيَامِ بِأَمْرِ أُمَّتِهِمْ وَلِأَنَّ فِي مُخَالَطَتِهَا مَا يُحَصِّلُ لَهُمُ الْحِلْمَ وَالشَّفَقَةَ وأَلِفُوا مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرَ عَلَى الْأُمَّةِ، وَخُصَّتِ الْغَنَمُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا أَضْعَفَ مِنْ غَيْرِهَا وَلِأَنَّ تَفَرُّقَهَا أَكْثَرُ مِنْ تَفَرُّقِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَفِي ذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ عُلِمَ كَوْنُهُ أَكْرَمَ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ عَظِيمِ التَّوَاضُعِ لِرَبِّهِ وَالتَّصْرِيحِ بِمِنَّتِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِر الْأَنْبِيَاء. (22)

وعَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّهَا سُئِلَتْ: مَا كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: "مَا كَانَ إِلَّا بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ، كَانَ يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلِبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ". (23)

 وعن أبي رِفَاعَةَ العدوي رضي الله عنه قال " انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ رَجُلٌ غَرِيبٌ، جَاءَ يَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ، لَا يَدْرِي مَا دِينُهُ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَرَكَ خُطْبَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ، فَأُتِيَ بِكُرْسِيٍّ، حَسِبْتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا، قَالَ: فَقَعَدَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ، ثُمَّ أَتَى خُطْبَتَهُ، فَأَتَمَّ آخِرَهَا. "(24)

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ. (25)

وعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ الْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ رضي الله عنهما، عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ، فَنَزَلَ فَأَخَذَهُمَا، فَصَعِدَ بِهِمَا الْمِنْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: " صَدَقَ اللَّهُ: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ "، ثُمَّ أَخَذَ فِي الْخُطْبَةِ. (26)

وعَنْ سَيَّارٍ رحمه الله، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ رحمه الله، فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَحَدَّثَ ثَابِتٌ رحمه اللهأَنَّهُ كَانَ يَمْشِي مَعَ أَنَسٍ رضي الله عنه، فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَحَدَّثَ أَنَسٌ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم "فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ". (27)

يقول ابن عثيمين رحمه اللهينبغي على الإنسان إذا مرّ على أحد أن يسلم عليه، وإذا كان هذا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم على الصبيان، فإننا نأسف لقوم يمرون بالكبار البالغين ولا يسلمون عليهم والعياذ بالله، قد لا يكون ذلك هجراً أو كراهة، لكن عدم مبالاة، وعدم اتباع للسنة، جهل، غفلة، وهم إن كانوا غير آثمين؛ لأنهم لم يتخذوا ذلك هجراً، لكنهم قد فاتهم خيرٌ كثير. (28)

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: "إِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهَا حَتَّى تَذْهَبَ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ، فِي حَاجَتِهَا". (29)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ". (30)

والكراع والذراع هو شيء بسيط من اللحم، فذراع الشاة معروف، والكراع هو اللحم الذي يكون فوق ظلف الشاة يسمى بالكراع، وهو شيء قليل، ولكن لتواضعه صلى الله عليه وسلم الذي يريد أن يعلمه للدنيا كلها يقول: "لو دعيت إلى كراع أو ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت" يعني يجيب الدعوة ولو كانت يسيرة، ويقبل الهدية ولو كانت بسيطة.

الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين في مدح التواضع، وأمثلة من تواضعهم

عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ: " إِنَّكُمْ لَتُغْفُلُونَ أَفْضَلَ الْعِبَادَةِ: التَّوَاضُعَ ". (31)

وَقَسَّمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بَيْنَ الصَّحَابَةِ ~ حُلَلًا، فَبَعَثَ إِلَى مُعَاذٍ رضي الله عنه حُلَّةً مُثَمَّنَةً. فَبَاعَهَا. وَاشْتَرَى بِثَمَنِهَا سِتَّةَ أَعْبُدٍ وَأَعْتَقَهُمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ حُلَّةً دُونَهَا. فَعَاتَبَهُ مُعَاذٌ، فَقَالَ عُمَرُ: لِأَنَّكَ بِعْتَ الْأُولَى. فَقَالَ مُعَاذٌ: وَمَا عَلَيْكَ؟ ادْفَعْ لِي نَصِيبِي. وَقَدْ حَلَفْتُ لَأَضْرِبَنَّ بِهَا رَأْسَكَ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: رَأْسِي بَيْنَ يَدَيْكَ. وَقَدْ يَرْفُقُ الشَّابُّ بِالشَّيْخِ. (32)

وَقَالَ بَعْضُهُمْ:

 

وَأَحْسَـــــــنُ أَخْلَاقِ الْفَتَى وَأَتَمُّهَا

 

تَوَاضُعُهُ لِلنَّـــــــــــــــــــــــــــــــاسِ وَهُــــــــــــــوَ رَفِيعُ

وَأَقْبَحُ شَيْءٍ أَنْ يَرَى الْمَرْءُ نَفْسَهُ

 

رَفِيعًا وَعِنْدَ الْعَالَمِينَ وَضِيعُ. (33)

 

وعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إِلَى الشَّامِ وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ رضي الله عنه فَأَتَوْا عَلَى مَخَاضَةٍ وَعُمَرُ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ فَنَزَلَ عَنْهَا وَخَلَعَ خُفَّيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ فَخَاضَ بِهَا الْمَخَاضَةَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا، تَخْلَعُ خُفَّيْكَ وَتَضَعُهُمَا عَلَى عَاتِقِكَ، وَتَأْخُذُ بِزِمَامِ نَاقَتِكَ، تَخُوضُ ِهَا الْمَخَاضَةَ؟ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ اسْتَشْرَفُوكَ، فَقَالَ عُمَرُ: " أَوَّهْ لَمْ يَقُلْ ذَا غَيْرُكَ أَبَا عُبَيْدَةَ جَعَلْتُهُ نَكَالًا لَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَمَهْمَا نَطْلُبُ الْعِزَّةَ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللَّهُ ". (34)

وعَنِ الشَّعْبِيِّ رحمه الله؛ قَالَ: رَكِبَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه، فَأَخَذَ ابْنَ عَبَّاسٍرضي الله عنهما بِرِكَابِهِ، فَقَالَ لَهُ: لا تَفْعَلْ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا. فَقَالَ زَيْدٌ: أَرِنِي يَدَكَ. فَأَخْرَجَ يَدَهُ، فَقَبَّلَهَا زَيْدٌ وَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم. (35)

وعن الْحَسَنَ البصري رحمه اللهيَقُولُ: "يَا ابْنَ آدَمَ، طَأِ الْأَرْضَ بِقَدَمِكَ، فَإِنَّهَا عَنْ قَلِيلٍ قَبْرُكَ، وَإِنَّكَ لَمْ تَزَلْ فِي هَدْمِ عُمُرِكَ مُنْذُ سَقَطْتَ مِنْ بَطْنِ أُمِّكَ". (36)

وقال أبو العتاهية:

يــــــــــــــا من تشرّف بالدّنيا وزينتها

 

ليس التّشرّف رفع الطّين بالطين

إذا أردت شريف النّاس كلّهم

 

فــــــــــــانظر إلى ملك في زيّ مسكين

ذاك الّذي عظمت والله نعمته

 

وذاك يصلح للدّنيا وللدّين. (37)

وعن رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ رحمه اللهقَالَ: قُوِّمَتْ ثِيَابُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه اللهوَهُوَ خَلِيفَةٌ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَذَكَرَ قَمِيصَهُ وَرِدَاءَهُ وِقَبَاءَهُ وَسَرَاوِيلَهُ وَعِمَامَتَهُ وَقَلَنْسُوَتَهُ وَخُفَّيْهِ ". (38)

ورُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَتَاهُ لَيْلَةً ضَيْفٌ وَكَانَ يَكْتُبُ فَكَادَ السِّرَاجُ يُطْفَأُ فَقَالَ الضَّيْفُ أَقُومُ إِلَى الْمِصْبَاحِ فَأُصْلِحُهُ فَقَالَ لَيْسَ مِنْ كَرَمِ الرَّجُلِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ ضَيْفَهُ قَالَ أَفَأُنَبِّهُ الْغُلَامَ فَقَالَ هي أول نومة نامها فقام وأخذ البطة وَمَلَأَ الْمِصْبَاحَ زَيْتًا فَقَالَ الضَّيْفُ قُمْتَ أَنْتَ بِنَفْسِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ ذَهَبْتُ وَأَنَا عمر وَرَجَعْتُ وَأَنَا عمر مَا نَقَصَ مِنِّي شَيْءٌ وَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ مُتَوَاضِعًا. (39)

وعَنْ يَحْيَى بْنِ أبي كَثِيرٍ رحمه اللهقَالَ: "رَأْسُ التَّوَاضُعِ ثَلَاثٌ أَنْ تَرْضَى بِالدُّونِ مِنْ شَرَفِ الْمَجْلِسِ، وَأَنْ تَبْدَأَ مَنْ لَقِيتَهُ بِالسَّلَامِ، وَأَنْ تَكْرَهَ الْمِدْحَةَ وَالسُّمْعَةَ وَالرِّيَاءَ بِالْبِرِّ". (40)

وأنشد الكُريزي:

 

تواضَعْ إذا ما نِلتَ في الناسِ رفعةً

 

فإنّ رفِيعَ القــــــــــــــــــــــــــــــــومِ مَـــــن يَتَوَاضَعُ

ولا تمشِ فوقَ الأرضِ إلا تواضعًا

 

فكــــــــــــــــــــــمْ تحتَها قومٌ هُمُوا مِنْكَ أرفَعُ

وإنْ كُنْتَ في عِزٍ رَفيعٍ ومَنْعَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةٍ

 

فكمْ مَاتَ مِن قومٍ هُمُوا منكَ أمْنَعُ. (41)

 

وعن السَّرِيَّ بْنَ مُغَلِّسٍ رحمه الله، قَالَ" غَزَوْتُ رَاجِلًا فَنَزَلْنَا خِرْبَةً لِلْرُومِ، فَأَلْقَيْتُ نَفْسِي عَلَى ظَهْرِي، وَرَفَعْتُ رِجْلِي عَلَى جِدَارٍ، فَإِذَا هَاتِفٌ يَهْتِفُ بِي: " يَا سَرِيُّ بْنُ مُغَلِّسٍ، هَكَذَا تَجْلِسُ الْعَبِيدُ بَيْنَ يَدَيْ أَرْبَابِهَا".(42)

يقول الإمام الشافعي رحمه الله: أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدره، وأكثرهم فضلًا من لا يرى فضله. (43)

وإذا أنعم الله عليك بموهبة لست تراها في إخوانك، فلا تفسدها بالاستطالة عليهم بينك وبين نفسك، وبالتحدث عنها كثيراً بينك وبينهم؛ فإنّ نصف الذكاء مع التواضع أحبُّ إلى قلوب الناس وأنفع للمجتمع من ذكاء كامل مع الغرور. (44)

ولا يقع التواضع موضعه إلا بثلاث: أن يكون من تتواضع إليه مستحقاً لهذا التواضع، وأن يكون عارفاً بقيمته، وأن لا يلتبس التواضع بالذلة عند من يشاهدونه. (45)

فوائد التواضع

1- التّواضع خلق كريم من أخلاق المؤمنين ودليل محبّة ربّ العالمين.

2- وهو طريق موصل إلى مرضاة الله وإلى جنّته.

3- وهو السّبيل إلى القرب من الله ومن ثمّ القرب من النّاس.

4- التّواضع عنوان سعادة العبد في الدّارين.

5- يحبّ الله المتواضعين ويكلؤهم برعايته ويحيطهم بعنايته.

6- المتواضعون آمنون من عذاب الله يوم الفزع الأكبر.

7- وهو دليل على حسن الخاتمة وعلى حسن الخلق.

8- التّواضع يؤدّي إلى حصول النّصر والبركة في المال والعمر. (46)

 

والحمد لله رب العالمين

 

---

(1) شرح زاد المستقنع للشنقيطي (153/ 14).

(2) مدارج السالكين (6/ 134). وفتح الباري (11/ 341)، دليل الفالحين لابن علان (3/ 50).

(3) التواضع والخمول لابن أبي الدنيا (ص: 152).

(4) تعريفات أخرى للتواضع: التواضع هو: الاستسلام للحق وترك الاعتراض في الحكم.

التواضع إظهار الذل لمن يراد تعظيمه، وقيل هو تعظيم من فوقه لفضله. وسئل الفضيل عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له ويقبله ممن قاله، وكذا قال ابن عطاء: التواضع قبول الحق من كل من قاله. وقيل لأبي يزيد البسطامي متى يكون الرجل متواضعاً؟ قال: إذا لم ير لنفسه مقاماً ولا حالاً، ولا يرى أن في الخلق من هو شرّ منه.

والتواضع: ضد التعالي يعني ألا يترفع الإنسان ولا يترفع على غيره، بعلم ولا نسب ولا مال ولا جاه ولا إمارة ولا وزارة ولا غير ذلك؛ بل الواجب على المرء أن يخفض جناحه للمؤمنين، أن يتواضع لهم كما كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة عند الله؛ رسول الله ﷺ يتواضع للمؤمنين، حتى إن الصبية لتمسك بيده لتأخذه إلى أي مكان تريد فيقضي حاجتها عليه الصلاة والسلام. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (5/ 50) لمحمد علي بن محمد بن علان بن إبراهيم البكري الشافعي (المتوفى: 1057هـ).

(5) تعريف التواضع لغة: مصدر تواضع أي أظهر الضّعة، وهو مأخوذ من مادّة (وض ع) الّتي تدلّ على الخفض للشّيء وحطّه، يقال: وضعته بالأرض وضعا، ووضعت المرأة ولدها.

والوضائع قوم ينقلون من أرض إلى أرض يسكنون بها، والوضيع الرّجل الدّنيّ، والدّابة تضع في سيرها وضعا وهو سير سهل يخالف المرفوع.

وقال الرّاغب: الوضع أعمّ من الحطّ ومنه الموضع قال تعالى{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13] وقد يستعمل هذا في الإيجاد والخلق كما في قوله سبحانه { وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ } [الرحمن: 10] ويقال رجل وضيع بيّن الضّعة في مقابل: رفيع بيّن الرّفعة.

وقال في الصّحاح ووضع الرّجل (بالضم) يوضع ضعة وضعة أي صار وضيعا، ووضع منه فلان أي حطّ من درجته والتّواضع التّذلّل، والاتّضاع أن تخفض رأس البعير لتضع قدمك على عنقه فتركب.

(6) والفرق بين التواضع والخشوع: أن التواضع يقال فيما بين رفيع ووضيع، وأيضا فالتواضع يعتبر بالأخلاق والأفعال الظاهرة والباطنة. والخشوع يقال باعتبار أفعال الجوارح، ولذلك قيل: إذا تواضع القلب خشعت الجوارح، قال تعالى: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ)، وقال تعالى: (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ).

ويقول الشيخ زكريا الأنصاري رحمه الله: وهو أعم من الخشوع لأنه يستعمل فيما بين العباد وفيما بينهم وبين الرب سبحانه وتعالى، والخشوع لا يستعمل إلا في الثاني، فلا يقال خشع العبد لمثله ويقال تواضع له.

من معاني التواضع أيضاً الذل ، قال تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [المائدة: 54]. قال تعالى {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24].

(7) الزهد والرقائق لابن المبارك (1/ 134).

(8) مدارج السالكين لابن القيم (2/ 310).

(9) وَالْهَوْنُ بِالْفَتْحِ: الرِّفْقُ وَاللِّينُ. وَالْهُونُ بِالضَّمِّ: الْهَوَانُ. فَالْمَفْتُوحُ مِنْهُ: صِفَةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَالْمَضْمُومُ: صِفَةُ أَهْلِ الْكُفْرَانِ. وَجَزَاؤُهُمْ مِنَ اللَّهِ النِّيرَانُ.

(10) صحيح مسلم (4/ 2198) رقم 64 (2865) وسنن أبي داود (4/ 274) رقم 4895 وغيرهما.

(11) صحيح مسلم (4/ 2001) رقم 69 (2588)، وسنن الترمذي (3/ 444) رقم 2029وغيرهما.

(12) مدارج السالكين لابن القيم (2/ 310).

(13) شرح رياض الصالحين (3/ 514) لمحمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ).

(14) مدارج السالكين لابن القيم (2/ 316، 317).

(15) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان (ص: 59).

(16) الروح (1/ 233).

(17) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان (ص: 63).

(18) موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي (المتوفى: 1332هـ) (ص: 246).

(19) مدارج السالكين لابن القيم (2/ 310).

(20) السنن الكبرى للنسائي (6/ 257) رقم 6710 بسند صحيح، وقد أشار الشيخ الألباني رحمه اللهإلى تفصيل مهم عن هذا الحديث في السلسلة الضعيفة (11/ 688) وما بعدها، فليراجع فإنه مهم.

(21) صحيح البخاري (3/ 88) رقم 2262.

(22) فتح الباري لابن حجر (4/ 441).

(23) صحيح أخرجه ابن حبان في صحيحه(12/ 489) رقم 5675، وانظر السلسلة الصحيحة رقم 671.

(24) صحيح مسلم (2/ 597) رقم 60(876) وغيره.

(25) صحيح أخرجه الترمذي في سننه (4/ 387) رقم 2754، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 398) رقم 26096، وأحمد في مسنده (19/ 350) رقم 12345، وانظر السلسلة الصحيحة (1/ 698) رقم 358.

(26) صحيح أخرجه أبو داود في سننه (2/ 326) رقم 1109، ، وأحمد في مسنده (22995)، وابن حبان في صحيحه (6038)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود(4/ 272) رقم 1016.

(27) صحيح مسلم (4/ 1708) رقم 15(2168) واللفظ له، صحيح البخاري (8/ 55) رقم 6247.

(28) شرح رياض الصالحين (3/ 527) لمحمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ).

(29) صحيح البخاري (8/ 20) رقم 6072، واللفظ لابن ماجه.

(30) صحيح البخاري (3/ 153) رقم 2568.

(31) "صحيح موقوفاً" أخرجه النسائي في الكبرى (10/ 405) رقم 11852، وابن أبي شيبة في المصنف (13/ 360) رقم 35884وغيرهما.

(32) مدارج السالكين لابن القيم (2/ 315).

(33) غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب شمس الدين، أبو العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي (المتوفى: 1188هـ) (2/ 232).

(34) المستدرك على الصحيحين للحاكم (1/ 119) رقم 207 قال محقق المستدرك " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ لِاحْتِجَاجِهِمَا جَمِيعًا بأيوبَ بْنِ عَائِذٍ الطَّائِيِّ وَسَائِرِ رُوَاتِهِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ ". وانظر السلسلة الصحيحة (1/ 118).

(35) المجالسة وجواهر العلم للدينوري (4/ 146) رقم 1314، الأمالي للشجري (1/ 94) رقم 359.

(36) الزهد والرقائق لابن المبارك (1/ 292)، الزهد لأبي حاتم (ص: 37) رقم 12.

(37) العقد الفريد لأبي عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (ت: 328هـ) (1/ 36).

(38) حلية الأولياء لأبي نعيم (5/ 322).

(39) إحياء علوم الدين للغزالي (3/ 355).

(40) التواضع والخمول لابن أبي الدنيا (ص: 154).

(41) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 62).

(42) الزهد والرقائق للخطيب البغدادي (ص: 111) رقم 87.

(43) سير أعلام النبلاء 10/ 99.

(44) هكذا علمتني الحياة لمصطفى السباعي (المتوفى: 1384هـ) (ص: 88).

(45) هكذا علمتني الحياة لمصطفى السباعي (ص: 229).

(46) نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (4/ 1268).

عدد المشاهدات 10829